فوضى الخيارات

لم تعد حياة الإنسان في عصرنا الحالي تتدفق بنفس اليسر والسهولة الذي كانت تنساب به في الماضي. فقد شهدت معظم جوانب حياته تغييرات جذرية، باستثناء وظائفه الطبيعية التي لا تزال تعمل بنفس النمط منذ البداية. جاء العصر الحديث محملا بكم هائل من التحديات والمستجدات التي لم يسبق للبشرية أن واجهتها أو عايشتها في الأزمنة السابقة. تولدت عنها تداعيات ومضاعفات عميقة على المستوى النفسي والسيكولوجي للإنسان.
تفرعت جدور التكنولوجيا والتقانة في أسلوب حياته وأغرقته في كم هائل من التفاصيل والبيانات جعلته لا يميز في الكثير من أنشطته بين ما هو جوهري وما هو عرضي، وما هو مركزي وما هو هامشي، الشيء الذي انعكس سلبا على قدرته على اتخاذ قرارات صحيحة، بعضها قد يكون مصيريا بالنسبة إليه في العديد من الأحيان. فمعظم الأجهزة التكنولوجية والاختراعات التقنية التي نراها أمام أعيننا اليوم تم اكتشافها عن طريق الصدفة، وتم طرحها في الأسواق بهدف تحقيق الأرباح، وليس تلبية لاحتياجات أساسية تتوقف عليها حياة المجتمع.
لقد أصبح إنسان هذا العصر يعاني من الضبابية وعدم الوضوح في الرؤية بسبب الوفرة وتعدد البدائل والخيارات خلقت لديه نوعا من التخمة والامتلاء الزائد، أدى في النهاية إلى تراجعه عن الاستفادة مما هو متاح.
ولنأخذ على سبيل المثال المكتبات التي كانت بالأمس تخصص لها أراضي للبناء وترصد لها ميزانيات بالملايين من أجل تجهيزها بالمعدات وملئها بالكتب. صارت اليوم مجرد ملفات بسيطة يجري تحميلها من الأنترنت وتتم قراءتها بواسطة تطبيقات صغيرة، معظمها لا يكلف سنتا واحدا. لكن يبقى السؤال: أين القارئ؟
والدروس التي كان الأستاذ يبذل فيها قصارى جهده من أجل توصيل الفكرة إلى التلميذ لعدم توفر الوسائل التربوية والأدوات التوضيحية، أضحت الآن متاحة على الأنترنت بكبسة زر.
لكن أين الدارس؟
لقد أصبحنا كالجالس إلى مائدة فاخرة تفيض بأشهى وألذ أصناف الأطعمة، ولكن بسبب هذا الفيض الزائد عن الحد، فقدت نفسه شهيتها وأمسك عن الأكل. توهما منه أنه متخم، شبعان، إلا أن جسمه في الحقيقة جوعان في أمس الحاجة لأن يزود. لقد أصبحنا تائهين بسبب الوفرة وكثرة الخيارات والبدائل التي وفرتها لنا التكنولوجيا، فلم نعد نعرف ماذا نفعل بأنفسنا. لهذا السبب بدأ مستوى ثقافتنا في الانخفاض وبدأت نسبة المثقفين في التراجع. أكثر من ذلك، بدأنا نلاحظ أن هذا الجيل الصاعد يبدو وكأنه لا يقرأ ولا يبحث، يهتم فقط بالمظاهر السطحية. وهذا هو السبب في انتشار التفاهة في بلداننا العربية بشكل مريع.
حيث نرى أن المؤثرين السطحيين على وسائل التواصل الاجتماعي يحصدون ملايين المتابعين، بينما المؤثرون الذين يمتلكون العلم ويقدمون محتويات مهمة للغاية، عدد متابعيهم قليل جدا. ومن هنا يمكن أن نستشف صورة عن المجتمع ككل. لقد أفسدت التكنولوجيا المعاصرة عقولنا وأخلاقنا بسبب الكم اللامعقول من الخيارات والبدائل الذي تقدمه لنا. لذلك بدأنا نجد أنفسنا في كثير من الأحيان تائهين بين وفرة الخيارات. هذا التشتت يمكن أن يؤدي إلى شلل في اتخاذ القرارات، مما يجعلنا نشعر بالضياع والارتباك. ولكن، هناك طرق يمكننا من خلالها التغلب على هذه المشكلة واستعادة السيطرة على حياتنا.
عندما نعرف ما هو الأكثر أهمية بالنسبة لنا، يمكننا التركيز على الخيارات التي تتماشى مع هذه الأولويات. هذا سيساعدنا على تقليل عدد الخيارات المتاحة ويجعل عملية اتخاذ القرار أكثر سهولة. وبدلا من الانجراف وراء العروض الكثيرة، يمكننا تحديد ما نحتاجه بالضبط والالتزام به، مما سيساعدنا على تجنب التشتت والتركيز على ما هو ضروري.
ابتكار روتين يومي كذلك يمكنه أن يساعد في تقليل عدد القرارات التي نحتاج إلى اتخاذها يوميا، مما يخفف من الضغط النفسي ويجعل حياتنا أكثر تنظيما. وكذلك استخدام التفكير النقدي لتقييم الخيارات المتاحة بناء على معايير محددة، مثل الجودة، السعر، والاحتياجات الشخصية، يساعدنا على اتخاذ قرارات مستنيرة ومدروسة. كما لا يجب أن نتردد في طلب النصيحة من الأشخاص الذين نثق بهم، فقد يكون لديهم وجهات نظر مختلفة تساعدنا في اتخاذ القرار الصحيح.
يمكننا أيضا التعلم من تجاربنا السابقة لتحديد ما يعمل بشكل جيد وما لا يعمل، مما سيساعدنا في اتخاذ قرارات أفضل في المستقبل. وباختصار شديد، الحل يكمن في تبني نظرة شاملة واستراتيجية لمشاكلنا ومشاريعنا، تماما كما يفعل الشخص الذي يطير على متن مروحية فوق المدينة.
من هذا المنظور العلوي، يمكننا بسهولة تحديد أهدافنا واتخاذ قرارات مدروسة، بدلا من الضياع في التفاصيل اليومية والتشتت بين الخيارات الكثيرة والمتعددة.
التعليقات
إبقَ على اطلاع