HAMASAT

HAMASAT

النصف

عمرو شاب لطيف. تعرفت عليه في ثانوية عمر بن عبد العزيز، عندما كنت أتابع دراستي في السنة الثانية من الأقسام التحضيرية شعبة الرياضيات. رأسه كبيرة بشكل ملفت، ووجهه أصفر مستدير. تكاد ملامحه تكون آسيوية، لولا ان شفتيه سميكتان تضربان قليلا إلى السمرة، وتحتوي إحداهما على شامة بارزة تمنعهما من الانطباق تماما عندما يغلق فمه بعد الكلام. قامته لا تتعدى المتر ونصف تقريبا. كان يلقب في القسم ب "النصف" أي "نصف بني آدم" أو "نصف إنسان" لضآلة حجمه، وقصر قامته. كان محط اهتمام الطلبة والمدرسين في نفس الوقت. 

الجميع يقدره ويحترمه لولا أن شكله الغريب نوعا ما الذي كان يُحوِّل قاعة الدرس إلى خشبة مسرح حقيقي يغرق فيه الجميع بالضحك لحد البكاء في بعض الأحيان. فلا يدري أحد إن كان يضحك بسبب الأستاذ أم يضحك بسبب النصف. وبالخصوص أستاذ الرياضيات ذو القامة الطويلة والجسد المكتنز الذي كان يحمل شهادة دكتوراه في الجبر، ويفتخر بكونه تحصل عليها من جامعة السوربون بباريس بميزة حسن جدا مع مرتبة الشرف. كان على الرغم من مهارته في علم الجبر وخبرته الواسعة في حل تمارينها يخشى النصف أشد ما تكون الخشية. كانت عيناه لا تفارقانه أثناء عملية حل مشكلة ما. وكأنه يخاف أن يتعثر في خطوة أثناء خطوها فيحيد عن الطريق ولن يلبث النصف أن يتلقفه سريعا ويعود به إلى الجادة صاغرا. أما أستاذ الفيزياء، الذي لم يكن يكُفّ في مطلع السنة عن الاستهزاء بالطلبة، ونعتهم بالأغبياء الذين لا يستحقون مقاعدهم في الأقسام التحضيرية، فتغير سلوكه، وتقلصت شخصيته، ولم يعد بوسعه أن ينتقد أي طالب، بسبب وجود النصف في القسم. 

وكأن النصف صار لدى الطلبة جدارا ناريا يحتمون به من جبروت الأستاذ وتعسفه، عندما يُعجب بنفسه، ويعتز بها، وتأخذه الحميّة بقدرته على حل كل المشاكل. 

كان النصف طالبا لطيفا للغاية. يتحدث بأدب وبساطة قل نظيرها بين الطلاب. يتكلم بالعربية دائما ولا يتحدث الفرنسية أو الإنجليزية إلا إذا دعت الضرورة لذلك. بخلاف معظم الطلاب الذين كانوا يتباهون باستخدام مهاراتهم اللغوية فيما بينهم، وكأنهم يشعرون بحاجة داخلية ما تدفعهم لإثبات ذواتهم أمام الآخرين. وحينما تدق ساعة الاستراحة. ويتجمهر الطلبة وسط الساحة يتبادلون فيما بينهم أطراف الحديث، كان النصف عادة ما يختار أن يجلس لوحده إلى جدع شجرة صغيرة، يقع في الناحية الشمالية للساحة عند أسفل بناية مخصصة لمادة الفيزياء.. ينأى بنفسه عن الجميع. كما لو أنه اختار بعزلته تلك ان يتحاشى الاختلاط بالطلبة، رِفقا بنفسه أن تختلس النظرات إلى قامته، أو إلى رأسه، فيتسبب ذلك في موجة شديدة من الضحك لا يتم التخلص منه إلا بصعوبة بالغة. كان طالبا عبقريا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. 

حاولت مرارا أن أنادي عليه أمام الطلبة بلقب عالم الفيزياء الإنجليزي "ها وكينج" لعل هذا اللقب ينتشر ويطمس لقبه القديم. لكن بلا فائدة، فالكل مجمع على تسميته بذات اللقب. كأن ليس في الأمر شيء يستوجب التغيير أو التبديل مراعاة لأحاسيس إنسان، أو مشاعره، عندما يطلق عليه أحد ما لقبا لا يحب أن ينادى به. 

حدث مرة أن تأخر النصف في الحضور إلى قاعة الدرس ببضعة دقائق فقط، وكأن أستاذ الجبر قد لاحظ غيابه فأراد أن يستفسر عنه، فسأل عنه قائلا 

"أين النصف؟ لماذا لا أراه في مكانه حيث يجلس؟ "

وفي اللحظة التي نطق فيها كلمة "النصف" دفع الباب الذي لم يكن مغلقا تمام الإغلاق وظهر النصف يمشي ببطء، واستدار عند الطاولة الأمامية بقرب الأستاذ، ومضى إلى مقعده في هدوء وجلس. 

بينما عجت القاعة بموجة من الضحك جرفت الأستاذ معها كذلك … إذ كان الطلاب يعلمون أن الأستاذ على دراية بهذا اللقب، فاستخدمه للسؤال عن صاحبه، مما أعطى انطباعا بأنه يوافق عليه ويدعم الطلاب الذين أطلقوه. 

كان يوما أسودا على أستاذ الجبر. فما كاد يشرع في شرح الدرس حتى بادره النصف بسؤال يستفسره فيه عن مبرهنة مرّرها بلا إثبات، ثم طرح عليه سؤالا ثانيا وثالثا لم يدري الأستاذ لهما طريقا للرد، واشتد حرجه أمام الطلبة لدرجة انه بدأ يتلعثم ويتصاغر، في الوقت الذي أخذ صوت النصف يرتفع في القسم، وهو يحاجج الأستاذ بأسلوب منطقي، قوي لا شبهة فيه ولا التباس، مما جعل الطلبة والأستاذ يشعرون بالخجل والصغار أمام القدرات الفائقة التي لمسوها في هذا الإنسان الضئيل الذي كانوا يضحكون عليه قبل قليل. 

ولم يكن ذلك اليوم بالشيء الذي يذكر مقارنة باللقاءات التي تمت بيننا وبين فوج فرنسي يتكون من عشرة طلبة متفوقين حلوا ضيوفا على قسمنا رفقة اثنين من أساتذتهم، في إطار الشراكات التعليمية التي تربط المغرب بفرنسا. كانت أياما لا تنسى تركت أثرا عميقا في نفوسنا لما شعرنا به من فخر واعتزاز ببلدنا عندما أُتيحت لنا الفرصة ان نلتقي بطلبة متفوقين في مادة الرياضيات، ونبرهن لهم أن الطالب المغربي طالب متميز تستحيل هزيمته في هذه المادة ...فقد أجاب النصف على كل التمارين العسيرة التي طرحها الأساتذة الفرنسيون لإِرباكنا وظهر الفرق شاسعا بينه وبين الطلبة الفرنسيين الذين عادوا إلى بلدهم وقد طبعت في أذهانهم للأبد صورة هذ ا الكائن العجيب الذي كنا نلقبه بالنصف.

 قال عنه أستاذ الرياضيات الفرنسي بالحرف الواحد في حفل التكريم الذي أقيم بمناسبة تلك الزيار ة: 

"لم أرى في حياتي أحدا يملك عقلا جبارا مثل الذي يملك هذا الطالب. يستطيع بسهولة أن يرتقي إلى مصاف العلماء والعباقرة إن هو رغب في ذلك."

About Me
Abderrahmane Hassani

I'm a traveler, wanderer, explorer, and adventurer of life's great journey.

About Me
Abderrahmane Hassani

I'm a traveler, wanderer, explorer, and adventurer of life's great journey.

About Me
Abderrahmane Hassani

I'm a traveler, wanderer, explorer, and adventurer of life's great journey.

التعليقات

إبقَ على اطلاع

مقالات قد تنال إعجابك

Apr 29, 2025

...كان والدي طرازا من الرجال ليس كسائر الرجال. أحب الأدب لدرجة أنه قرر ذات مرة أن يشعل ثورة في البيت، ويرغمنا جميعا على التحدث باللغة العربية

Apr 29, 2025

...كان والدي طرازا من الرجال ليس كسائر الرجال. أحب الأدب لدرجة أنه قرر ذات مرة أن يشعل ثورة في البيت، ويرغمنا جميعا على التحدث باللغة العربية

Apr 29, 2025

...كان والدي طرازا من الرجال ليس كسائر الرجال. أحب الأدب لدرجة أنه قرر ذات مرة أن يشعل ثورة في البيت، ويرغمنا جميعا على التحدث باللغة العربية

Apr 29, 2025

...الضوضاء والصراخ و "خذ وهات" تملأ الأجواء في كل مكان. الناس يتدافعون في الأسواق، وفي محطات القطار، والمترو، وفي الملاعب الرياضية

Apr 29, 2025

...الضوضاء والصراخ و "خذ وهات" تملأ الأجواء في كل مكان. الناس يتدافعون في الأسواق، وفي محطات القطار، والمترو، وفي الملاعب الرياضية

Apr 29, 2025

...الضوضاء والصراخ و "خذ وهات" تملأ الأجواء في كل مكان. الناس يتدافعون في الأسواق، وفي محطات القطار، والمترو، وفي الملاعب الرياضية

Apr 29, 2025

...بدا متوترا في جلسته، وهو يعيد للمرة الثالثة مراجعة أوراقه، على ضوء أشعة الشمس المتسللة من النافذة التي كان يجلس تحتها، في الحجرة الشرقية لبيتهم القديم الواقع في أقصى الجهة الغربية للقرية حيث كبر وترعرع

Apr 29, 2025

...بدا متوترا في جلسته، وهو يعيد للمرة الثالثة مراجعة أوراقه، على ضوء أشعة الشمس المتسللة من النافذة التي كان يجلس تحتها، في الحجرة الشرقية لبيتهم القديم الواقع في أقصى الجهة الغربية للقرية حيث كبر وترعرع

Apr 29, 2025

...بدا متوترا في جلسته، وهو يعيد للمرة الثالثة مراجعة أوراقه، على ضوء أشعة الشمس المتسللة من النافذة التي كان يجلس تحتها، في الحجرة الشرقية لبيتهم القديم الواقع في أقصى الجهة الغربية للقرية حيث كبر وترعرع

Apr 29, 2025

.عندما سئل أينشتاين عن موهبته، أجاب ببساطة

Apr 29, 2025

.عندما سئل أينشتاين عن موهبته، أجاب ببساطة

Apr 29, 2025

.عندما سئل أينشتاين عن موهبته، أجاب ببساطة

اشترك في النشرة البريدية

تصلك مقالاتنا مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

© 2025 Hamasat. Créer par MonkeyDzign.

اشترك في النشرة البريدية

تصلك مقالاتنا مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

© 2025 Hamasat. Créer par MonkeyDzign.

اشترك في النشرة البريدية

تصلك مقالاتنا مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

© 2025 Hamasat. Créer par MonkeyDzign.