شكرا لك سيدي

بدا متوترا في جلسته، وهو يعيد للمرة الثالثة مراجعة أوراقه، على ضوء أشعة الشمس المتسللة من النافذة التي كان يجلس تحتها، في الحجرة الشرقية لبيتهم القديم الواقع في أقصى الجهة الغربية للقرية حيث كبر وترعرع..
كان شابا وسيما، طويل القامة، نحيل البنية، بوجه مشرق، وعينين ثاقبتين تنبضان بالعزيمة والثقة. كان قد انتهى لِتوِّه من تحضير الملف الذي يجب أن يسلمه قبل الظهيرة إلى إدارة الأمن. كان يعتزم اجتياز مباراة مفتشي الشرطة، رفقة صديق العمر، ابن قريته الذي دَلَّه على المباراة، والذي كان قد تحصل معه على شهادة الباكالوريا في السنة الفائتة، بعد ثلاث سنوات قاسية قضياها في رحاب إحدى الداخليات التابعة للثانوية، حيث كانا يدرسان في المدينة..
وبعد أن تأكد من أن كل شيء على ما يرام، نهض من مكانه، وأخذ يمدد يديه إلى الخلف ثم إلى الأمام، ليتخفف من مستوى التوتر الذي كان يشعر به، بسبب قلة نومه ليلة البارحة، وبسبب الإعياء الشديد الذي اعتراه نتيجة سعيه نهار البارحة بين المكاتب الحكومية لتحضير بعض أوراق الملف. وفجأة، سمع صوتا ينادي عليه من بعيد. صوتا مألوفا لديه، يحمل في طياته دفء الذكريات وحنين الأيام الخوالي.
كان الصوت يأتي من والده.. الشيخ الطاعن في السن، الذي كان يناديه ليساعده في شيء ما على ما يبدو. كان والده رجلا قصير القامة، منحني الظهر، قد حفر الزمن في وجهه تجاعيد غائرة، تعكس قصص الحياة القاسية، والمحن التي مر بها في حياته. كان يرتدي جلبابا صوفيا مفتوحا من الجانبين، ويلف حول رأسه رزة بيضاء، ليحمي نفسه من برد الشتاء القارس.
حمل الملف في يده وخرج من الغرفة، متتبعا مصدر الصوت. عندما وصل إلى الفناء الترب، الذي كان جزءه الغربي مسقوفا بالطين وجذوع الصفصاف. تبين له أن الصوت يأتي من الزريبة.
استغرب. ماذا يفعل والده هناك؟ أليس الراعي قد أخذ الغنم في الصباح الباكر لترعى؟
وعندما وصل إلى باب الزريبة وجد والده جالسا في الزاوية على نفس البردعة حيث تعود أن يجلس، وهو يمسك بيده لقّاطاً، كان يحاول به لف سلك حول قبضة كيرٍ انفكّت من مكانها. كان نظر والده ضعيفا، بحيث لم يعد يقوى على رؤية شيء بوضوح منذ زمن. كانت الزريبة خالية من الغنم، لم يكن فيها سوى المعزة البيضاء المرقطة برفقة جديها الصغير، والتيس المشاكس الذي كان الراعي يرفض اصطحابه مع الغنم، لما كان يسبب له من متاعب طوال الطريق. قبَّل يد والده وسأله بصوت خافت:
"هل تحتاج شيئا، والدي؟"
رد عليه والده بأنه نسي نظارته في الحجرة التي بجانب موقد الحطب، ويحتاج أن يحضرها له أحد. وضع الملف على خشبة المعلف حيث يوضع العلف للماشية، وخرج ليحضر النظارة. عندما دخل الحجرة، لم يجدها في المكان الذي أشار إليه والده، ولم يعثر عليها إلا بعد بحث طويل استغرق بعض الوقت. وجدها تحت الوسادة التي كان ينام عليها والده. حملها بسرعة وعاد إلى الزريبة، لأنه كان يخشى أن يضيع عليه الوقت. لا يزال عليه أن يجد وسيلة نقل ليذهب إلى المدينة ويسلم ملفه. وبمجرد أن وضع النظارة في يد والده، التفت نحو خشبة المعلف حيث ترك ملف أوراقه مركونا، إلا أن وجه الخشبة بدا له فارغا.
ظن في البداية أن الأوراق قد تكون تناثرت خلفها داخل المعلف، إلا أنه لم يبصر أي شيء بعد أن أطل برأسه ينظر تحتها. وما إن استدار برأسه ليستفهم من والده إن كان أحد قد دخل الزريبة أثناء غيابه لإحضار النظارة، حتى وقعت عيناه على ورقة بيضاء ممزقة تحت التيس، يدوسها بقدمه، وفي فمه يلوح جزء من ورقة أخرى كان يلوكُها بأسنانه. كاد عقله أن يطير من رأسه، فوثب من مكانه نحو الجهة التي كان التيس يقف عندها، وأمسك برأسه محاولا فتح فمه ليتدارك الورقة التي كان على وشك أن يبتلعها.
إلا أن التيس أحكم قبضته على الجزء الذي كان بداخل فمه، فلم يتمكن من سحب سوى الجزء الخارجي الذي تمزق بفعل الشَّد. وكاد أن ينفجر من الغضب حين تبين له أن الجزء المسحوب يعود للوثيقة الأصلية لشهادة البكالوريا. لم يبق شيء يقرأ فيه من اسمه أو لقبه، سوى بقايا الميزة التي كان قد نالها في امتحان البكالوريا. تلاشت حروف “حسن”، ولم تبق سوى حروف "مست" واقفة وحدها، لا تحمل أي معنى، ولا تلمح إلى أي مديح يشير إلى الميزة. ولما جال بعينيه يبحث في محيط التيس عن أي وثيقة قد تكون نجت من قضمه، لم يعثر على شيء، سوى نتف صغيرة ممزقة ملقاة هنا وهناك. فصرخ صرخة غضب ارتعدت لها فرائص والده، الذي لم يكن يعلم شيئا مما حدث. وانحنى نحو رأس التيس، يشدُّه إليه من لحيته، وقد احمرت عيناه من الغضب، وأخذ يقول له وهو يتميز من الغيظ:
"ويحك! أين شهادتي؟ أأكلتها أيها النتن؟ والله لأذبحنك إن لم تعدها الي"
فأخذ التيس يحرك ر أسه يمنة ويسرة، محاولا أن يتحرر منه، إلا أنه شدَّد قبضته عليه ولكمَه على بطنه لكمة قوية جعلته يصرخ من الألم": مااااااااع…مااااااااااع" بينما هو يصيح بغضب:
"أين شهادتي أيها الكلب؟ أين كدي واجتهادي، يا نتن الرائحة؟ أين ذهبت سنين عمري أيها الشيطان؟ والله لأقتلنك"
وعاد وخبطه خبطة ثانية وثالثة، والتيس يصرخ: "مااااااااااع…ماااااااااااع" بينما توقفت المعزة عن لوك العلف في فمها، وأخذت تنظر إليهما باستغراب، وكأن لسان حالها يقول له:
"لماذا تضربه؟ ماذا جنى المسكين حتى تضربه كل هذا الضرب؟"
في حين هرب الجدي إلى الناحية التي تقف عندها أمه، واحتمى تحت بطنها يبحث عن الضرع. ولما أخذ منه التعب مأخذه سقط على أرض الزريبة، مادًّا رجليه نحو الأمام، واستغرق في بكاء مرير. لم ينتبه لنفسه إلى أن أحس بوالده يقف عند رأسه، يهدئه ويقول له:
"ما لك يا ولدي؟ هل أنت بخير؟" ماذا حدث لك؟"
فرد عليه بصوت متقطع وهو لا يزال منخرطا في البكاء:
"التيس أكل شهادتي، وكل أوراقي ومن الصعب علي أن أستعيدها. لقد ضيع علي فرصة المباراة".
أنهضه والده من الأرض، وأخذ بيده حتى أوصله إلى الغرفة حيث كان يراجع أوراق ملفه قبل قليل وأخذ يربِّت بيده على كتفه ويقول له:
"لا تبك يا بني، الخير فيما اختاره الله"
ظل على تلك الحالة، مغموما يفكر فيما سيحل به تارة، يستشيط من الغضب من سو ء ما جرى، وتارة يهدأ ويستسلم للأمر الواقع. حتى جن عليه الليل، فذهب إلى فراشه وسقط نائما من شدة التعب.
وبعد انقضاء ثلاثة أشهر مرت عليه بأيامها ولياليها، وهو مهموم يفكر في كيفية استعادة وثائقه. سمع ذات مساء صوت هاتفه يرن. وعندما فتح الخط، وجد أخاه الذي يشتغل في ساحل العاج يتكلم. شعر أخوه من نبرات صوته بأن شيئا ما ليس على ما يرام، فسأله عما حدث. حكى له عن التيس وما فعله بأوراقه. فضحك حتى كاد أن يختنق من شدة الضحك، ثم قال له:
"لماذا لا تأتي عندي إلى ساحل العاج لتعمل معي؟ أنت متعلم ومثقف، يمكننا أن نكون شركاء ونتعاون فيما بيننا. ما رأيك؟ إذا كنت موافقا، سأرسل لك المال لتستخرج جواز سفرك وتلحق بي".
ومن غير أن يفكر لحظة واحدة رد عليه قائلا: "موافق" ولم يكد يمضِ عليه شهر واحد حتى أعد جواز سفره وكل الوثائق التي يحتاجها، وانطلق إلى المطار ليستقل الطائرة إلى أبيدجان. وما إن وصل إلى هناك حتى وجد أخاه في انتظاره.
كان أخوه يعمل مقاولا بارعا في مجال البناء، متفوقا في مهنته، مشكلته الوحيدة هي عجزه عن التوسع في مشاريعه بسبب عدم قدرته على تسييرها. كان في أمس الحاجة إلى شخص يثق فيه وعلى دراية حسنة في مجال المحاسبة والتسيير. كانت تعرض عليه العديد من المشاريع الكبيرة. لكنه كان يرفضها خوفا من الفشل في تحقيقها. وخشية على شهرته التي كان يحظى بها في أبيدجان.
مرت عدة سنوات متواصلة على الأخوين وهما يعملان جنبا إلى جنب، جمعا خلالها ثروة معتبرة. وفي صيف السنة الخامسة، شعرا بحاجة ملحة للتوقف عن العمل، ولو لشهر واحد، ليعودا إلى قريتهما ويزورا أفراد العائلة التي اشتاقا إليها بشدة. قررا إيقاف جميع الأوراش عن العمل. وعادا على عجل على متن طائرة نقلتهما إلى أقرب مدينة من قريتهما. ومن هناك، استقلا سيارة أجرة حملتهما إلى قريتهما الصغيرة، حيث كان الشوق يملأ قلبيهما للقاء الأهل الأحباب. وما إن اقتربا من الوصول إلى الدار، حتى لمحا على جانب الطريق قطيعا من الغنم بجوار بيتهم القديم يتهيأ للدخول.
عرفا على الفور أن هذا القطيع ملك لوالدهما عندما رأيا الراعي. وعندما وصلا، لفت انتباههما تيس واقف بمحاذاة الباب صوت نبيبه يملأ الأرجاء بالصياح:" مااااااااااع…ماااااااااااع" وكأنه لا يرغب في الدخول.. أسرع إليه الأخ الأصغر، وأمسك برأسه وأخذ يقبِّله بحرارة بالغة وهو يقول له:
"شكرا لك، سيدي التيس، شكرا على الخدمة التي أسديتها لي. لن أنسى صنيعك ما حييت"
في حين كان الأخ الأكبر يتمزق من الضحك لأنه أدرك أن التيس، بقضمته السحرية، قد حول مستقبل أخيه من موظف عادي إلى رجل أعمال ناجح.
يبدو أن التيس كان مستشارا اقتصاديا متنكرا.
التعليقات
إبقَ على اطلاع