أنا نصف حاضر

الناس من حولي يعتقدون أنني لست في حالة جيدة. أستشفُّ ذلك من نظرات عيونهم عندما تلاحقني، ومن أسلوب تعاملهم معي. كأنما الكلمات تتساقط من أفواههم كقطرات الندى على أوراق الشجر، فتتلألأ كالجواهر تحت ضوء الفجر. البواب عند باب العمارة يقوم عن مقعده ليحييني لمَّا أمرُّ به. وتتزاحم الكلمات في فمه ويتلعثم. وأصدقائي في العمل يمجدون أقوالي، مكررين ما قلته. كما لو أنني لا أزلّ البتة. وفي الملعب يتعمد اللاعبون تمرير الكرة إلى قدمي، مجاملة لي، لا احتراما لمبادئ لعب الكرة. لكنني مع ذلك لست أبدو سعيدا. أنا في الواقع، وإن كنت أبدو للآخرين أقف أمامهم، تضيء وجهي ابتسامتي لأمتلك قلوبهم، ولساني يتحرك بالحديث وآذاني تلتقط كلامهم، فإني أكون في الحقيقة نصف حاضر. أو لنقل نصف غائب. أنا ذاهل عن كل شيء. البارحة فقط وأنا جالس في المقهى على الكورنيش أمام البحر. سجلت ساعة يدي جلوسي في المقهى لمدة نصف ساعة تقريبا. أما الحقيقة فإن تواجدي في المقهى لم يزد عن بضعة ثوان استنفذتها في وضع قطعتي سكر في قدحي من القهوة. ارتفعت بعدها على الفور من فضا ء المقهى، وحلقت في اتجاه البحر على بضعة أمتار فوق قمم الموج واستدرت بعد هنيهة لأنظر خلفي. أعجبت بمرأى البنايات تقف جنبا إلى جنب، متجاورة كعلب كبريت تتخللها نوافذها، يتألق منها ضياء مشرق. وفي الأسفل ظهرت لي الطريق وكأنها شريط ممتد، والناس عليها يمشون متلاحقين، بعضهم خلف بعض، في حجم النمل يتحركون بخطوات سريعة على جانبيها، مشغولين بأمورهم، لا يلتفتون إلا لما يتعلق بهم. ولما دنوت قليلا من الكورنيش، رأيت نفسي جالسا على نفس المقعد الذي كنت أجلس عليه قبل قليل، أرتشف قهوتي على مهل، وعينان غائبتان، تحملقان في لا شيء. واستغربت من لامبالاتي لما شرع جرس هاتفي يرن، وأنا أنظر شاشته من غير أن أحرك ساكنا. وكأن الأمر يتعلق بشخص غيري يُطلب على الخط. كنت في تلك اللحظة أتأهب للرد على زمرة من الأسئلة دأبت على تهييج الغبار في رأسي كلما حضرت. وما أكثر ما تزورني في كل يوم، وتستنزفني استضافتها، وترهقني فأتعب وأَكلُّ وأخِرّ إلى الأرض جاثيا على ركبت اتوسلها أن تمهلني قليلا ريثما أعثر لها على أجوبة. وكان أشدها علي السؤال الأول":
من أنت؟ "أما الثاني فيضنيني لغرابته:" من أين أتيت؟ " والثالث يصيبني بالدوار: "لماذا أتيت إلى هنا؟ " أما الرابع والخامس فيجعلاني أصاب بالارتجاف والحمى": هل أتى بك أحد؟ أم جئت لوحدك؟ "...."لماذا هناك شيء بدلا من لا شيء؟ "
رباه. كيف أستطيع أن أتصدى لهذه الأسئلة؟ أنّى لي أن أتحمل مجرد لمسها. نارها حارقة ولظاها يطير النوم من عيني ليلا، ويصدمني بالناس، وبالأعمدة وأنا امشي بلا هدف في الشوارع، والأزقة، وأغفل عما قيل لي وأنا جالس في المكاتب وفي المقاهي والبيوت. دحرها في معركة يتطلب جيشا قويا من الكتب يتألف من عدة ألوية. أهمها لواء الفلسفة ولواء الدين والفيزياء والحياة مدججة كلها بأسلحة المنطق الدقيقة الموجهة بأشعة العقل الخارقة. لن أجيبك الآن أيتها الأسئلة. فأمامنا وقت طويل لأقهرك. سأخصص لك نصف عمري لأرد عليك، وإذا لم يغني النصف سأهبك عمري كله، لأخرسك، وأستريح منك، وتتغير نظرتي للوجود. دعيني أعود إلى المقهى حيث أجلس الآن. دعيني أصحو قليلا من غفلتي. فأنا الآن كعادتي. نصف حاضر أو لنقل نصف غائب، ويتعين علي أن أستعين ببعض عقلي لدفع الحساب للنادل، وأعود إلى البيت سيرا على الأقدام.
أووه. في الطريق كم يذهلني مرأى الناس عندما يغادرني نصف عقلي ويرحل للفضاء الخارجي ويشرع في تملي رؤوس الناس وهم يدِبٌون على سيقانهم على أديم الأرض. أقدامهم ملتصقة بوجهها، ورؤوسهم معلقة في جو السماء، دون أن يهووا في الفراغ السرمدي. والبحر الأزرق الشاسع، الذي يعكس سطحه ضوء الشمس والغيوم في لوحة ساحرة. لم لا يتدفق ماءه نحو الفراغ الخارجي. لم هو دائما ملتصق بها يعانقها من مليارات السنين. الجاذبية، ما الجاذبية؟ ما سرها؟ من أين جاءت؟ كفى... الوقت غير ملائم لنرافق "أليس" إلى أرض العجائب. لنعد إلى حالنا. كفانا عربدة بين أرجاء الكون. ما رأيناه اليوم يكفي. وإلا فقد نتوه. ونتخبط بين النجوم وتضيع منا طريق العودة للأبد. انتبه. فعقلك هو ما يربطك بهذا الوجود وضياعه يعني انمْحاءُك منه.
لهذا السبب أنا لست سعيدا في نظر الآخرين. أنا نصف حاضر ونصف غائِب، أتسكع بين دروب المعرفة... تارة، تراني أتكلم مع ابن رشد نتحدث في الفلسفة، وتارة التقي ألبيرت أيشتين يحكي لي قصصا عن النسبية، وأخرى أجالس نيلز بور يروي لي عن جنون الكم. أنا لست موجودا هنا دائما لأكلمك. أنا في حالة حركة لا تنتهي. أتنقل عبر الزمان وعبر المكان كيف أشاء، وأرى الأشياء كما حدثت. واتحدت إلى أصحابها وأصافحهم وأجالسهم وأضرب لبعضهم موعدا. أنا لا أستطيع الجلوس بمفردي لبضع دقائق. حتى وإن بدوْت للآخرين استقر وحيدا. أنا هكذا. نصف حاضر ونصف غائب، في رحلة دائمة لا تنتهي. حقائب سفري لا تفارقني أحملها دائما في وحدتي.. ولهذا السبب فأنا غريب نوعا ما. أختلف عن الآخرين. وحتى وإن لم أكن سعيدا بالمعنى الشائع بين الناس، فأنا بكل صراحة في غاية السعادة بالمعنى الفلسفي.
التعليقات
إبقَ على اطلاع