HAMASAT

HAMASAT

الخروج من البئر

كان والدي طرازا من الرجال ليس كسائر الرجال. أحب الأدب لدرجة أنه قرر ذات مرة أن يشعل ثورة في البيت، ويرغمنا جميعا على التحدث باللغة العربية الفصحى. كان يقول عنها أنها أجمل لغة على وجه الأرض. ويجب علينا جميعا تشغيلها في قلوبنا، وفي بيوتنا، وفي الشوارع، وفي كل مكان. حتى يأتي اليوم الذي نستعيد فيه أمجادنا والعز الذي كان عليه أجدادنا أيام كانوا يتكلمون لغتهم. كان يقرأ على مسامعنا في البيت أبياتا من الشعر الجاهلي، بنفس النبرة التي كان يتلو بها محمود درويش قصائده. فتتصاعد القوة من صدره كما يتصاعد البخار من فوهة الإبريق، فتتراقص على أنغامه قبة الغطاء. وتتردد الأبيات في البيت، متقطعة، كما يتردد الموج العاتي على صخر الشط. 

ويستمر في تلاوته وترداده على أسماعنا، حتى ينهك جسده، ويضعف صوته، ويتلاشى.. فتأخذني الرحمة به، ويسرع بي الحنو عليه، إلى وجهه المبتل بالدموع فأقبله وأنا أبكي... إلا أن تبادلنا أطراف الحديث بالعربية لم يستمر طويلا. 

فما لبث أن زار بيتنا أضياف من قرابة أمي في يوم من أيام العيد. واستغربوا من لغتنا ولثْغتنا ونحن نتحاور فيما بيننا بلغة عربية فصيحة. فضحكوا علينا حتى البكاء، رغم أن نيتهم لم تكن الاستهزاء أو أي قصد في الإيذاء. إلا أن أبي لم يرض عن تصرفهم، فأرغد، وأزبد، ووجد أن سلوكهم غير لائق، فانفعل وطردهم. 

بالطبع، لم تتقبل أمي ردة فعله. فثارت عليه ونعتته بالجنون. وأقسمت بألا يتحدث أحد العربية في بيتها، ما دامت الحياة تسري في نبضها. كان تمردها واضحا، وكلماتها تحمل في نبراتها إقرار من لا ينوي النكوص. ومنذ ذلك اليوم تغيرت الأوضاع في بيتنا. صارت أمي التي كانت تشتغل مدرسة في العلوم، تحرص أشد ما يكون الحرص على تعزيز مستوياتنا في العلوم. على حين دأب أبي الذي يعمل مدرسا للعربية على تقوية مواهبنا في الأدب. كان يرغب أن يجعل مني ناقدا أو شاعرا أو كاتبا ذائع الصيت. ولما انتهيت إلى القسم التوجيهي حيث يتعين علي أن أختار بين العلوم والآداب. أقسمت أمي بألا أسلك قط شعبة الآداب، حتى وإن انطبقت السماء على الأرض. وهددت بأنها ستترك البيت وتغادرنا بلا رجعة إن خالفت أمرها، مبررة موقفها بأن خاتمة الآداب هي في نهاية المطاف صفر. لا تطعم خبزا ولا توفر مسكنا. 

مما أجبر والدي على الانصياع لأمرها، والتزام الصمت، متخلِّيا عني تحت سلطتها المطلقة تقرر في شأني ما تشاء. طبعا كانت أمي تسعى إلى مصلحتي، لكنها لم تكن تدرك حجم المعاناة التي سوف تلحقها بي في المستقبل. لم تكن تعلم أنني أحمل في قلبي عدَاءً للرياضيات، وكراهية للفيزياء. وأن مستوياتي فيهما كانت متواضعة. 

كنت كمن وقع في بئر على حين غرة ويتعين عليه أن يعمل كل ما في وسعه ليصعد إلى السطح.

 وبعد مداولات علمت فيما بعد أنها كانت عسيرة، وافق المدرسون على انتقالي إلى السنة الموالية في شعبة العلوم. رغم اعتراض مدرس اللغة العربية، الذي أصر على توجيهي إلى شعبة الآداب. ووقعت الواقعة، وتعين علي أن أغير جلدي في أسرع وقت ممكن، وأن أتحول إلى شخص آخر مختلف. 

أينك يا عنترة وأينك يا لبيد؟ من منكما يمد إلي الحبل الآن لأخرج من البئر العميق، لأنفذ بجلدي؟ هل في شعركما من قافية ترد الي العافية؟ هل في أبحركم من سفن، تعيدنا إلى المدن؟ 

قبحك الله أيها المهلهل بن ربيعة، لقد تهلهل حالي بسببك. فصرت كالمسافر بلا زاد، وكالنبتة في أرض قاحلة. 

قل لي بربك كيف أقاتل، لأصير من الأوائل، وأدرك القوافل؟ 

قوافل المهندسين أيها الأحمق وليس قوافل المهلهلين. وأنت يا أبت سامحك الله. 

هل ذهب عقلك قبل الأوان؟ هل نفذ رصيدك من التفكير قبل أن تحسم أمر مستقبلي مع الوالدة؟ 

ضللت تنفخ في رأسي الشعر، حتى كدت تصيرني إلى مجنون. أقول شعرا في البيت، واتلوه في المدرسة، وأشرد في الحي وأنا أدندنه. ألم يكن من الأنسب لنا جميعا أن تدفع بي إلى طبّال فيدرِّسني. أو إلى عازف غيطه، فيدربني. أقضي يومي أضرب على الطبل حتى ينخرم جلده، وأنفخ في الغيطه حتى تنفجر إحدى وجنتيَّ، أو كلتاهما، ونستريح من هذا العناء الذي صرنا إليه. بالمختصر المفيد 

ألا ترى معي أن الإيقاع هو القاسم المشترك لكل تلك الهرطقة. محض تناوب بين الضجيج وبين الصمت0

. هيهه... تعال الآن لتدعمني في الرياضيات. أم تراك تجدها وعرة، شرسة، قوافيها لا تشبه في شيء قوافيك، وبحارها أشد غورا من أبحرك. 

لماذا تخليت عني؟ ألم تعلم بأن الصعود من البئر في بلدنا هذا هو أشد مشقة من الصعود إلى سطح القمر؟ 

أهكذا تكون الشجاعة يا عنترة... تتركني في قعر البئر وحيدا وتمضي. بلا عذر وبلا اعتذار. كيف أخرج من هذا العمق الكبير. فأنا لا أعرف كيف أفرق بين المربع والدائرة، ولا أعرف من هي سين، ولا من أخواتها. وأمي صعبة، وشرسة، لا ترضى إلا بالمراتب الأولى في الصف. وإلا فستظل تضرب لي الدف. حتى أتعب من اللف. ويغمى علي وأسقط. 

وذات ليلة وبينما كنت أغط في نوم عميق، بعد ليلة طويلة من السهاد أمضيتها في التفكير بشأن مستقبلي، رأيت فيما يرى الرائي في منامه أني أقف وحيدا على ضفاف واد عميق، تحيط به التلال والجبال من كل جانب. وهدير الماء يتردد بين أغوار الكهوف المجاورة لمجرى الماء. 

وبينما أنا واقف أتأمل صلابة الصخور القاسية التي كانت تحيط بجانبيه. لاحت لي كوكبة من الفرسان يخرجون تباعا من فوهة أحد الكهوف المظلمة على الجانب الأيمن للوادي ويتقدمون ببطء إلى جهتي.  وبأيديهم سيوفهم ورماحهم حتى انتهوا إلي. فترجَّل ثلاثة منهم عن أحصنتهم، ودنوا من حتى صاروا على مرمى حجر. فأماط أحدهم اللثام عن وجهه وصرخ في وجهي بصوت تردد صداه بين الجبال قائلا: 

"هل تعلم من أنا؟" 

فأجبته وأنا أرتعد من الخوف 

"لا. لا.. أعرفك يا سيدي" 

قال: 

"أنا زهير بن أبي سلمى، أنسيت قولي في المعلقة: 

وما نيل المطالب بالتمني... ولكن تؤخذ الدنيا غلابا"

ثم تقدم الثاني شاهرا سيفه وهو يلوح به في يده أمام وجهي وقال لي: 

"من أنت أيها الفتى الغر. لقد أيقظتنا من رقدتنا ببكائك المر. ما مشكلتك؟". 

فقلت له وشفتاي ترتجفان من الهلع: 

"أنا... أنا... لا شيء. مشكلتي هي ". 

فقاطعني بصوت جهوري، شعرت به وكأن الأرض تهتز تحت قدمي: 

"مشكلتك أنك جبان، رعديد، ابن أمك، أتسمي بضعة علوم تدرسونها في عصركم مشكلة. أين عسرها من تعقيد شعري الذي اخترق الزمان بسحره حتى بلغكم أيها الأوغاد.. أسمع يا هذا... لئن لم تنهض من سقطتك وتقوم للقتال معنا في ساحات الوغى فإني أقسم أني سأعود إليك لأفصل رأسك الغبية عن جسدك بسيفي هذا" 

ثم أنشد هذا البيت 

"لا تسقني ماء الحياةِ بذلة.. بل فاسقني بالعزِّ كأس الحنظلِ" 

فعرفت أنه عنترة العبسي. ثم ما لبث الثالث أن كشف عن وجهه وغمزني بإحدى عينيه وهو يدمدم:

"ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا.. ويأتيك بالأخبار من لم تزود". 

فعرفت أنه طرفة بن العبد. واستفقت من نومي مذعورا، جالسا فوق الفراش، وقلبي ينبض بسرعة كأنما يلاحقني طيف مارد من مردة الجن، وتفلت في يدي ثلاثا، واستعدت بالله من شر الحلم، ثم عدت لأنام. 

وفي صبيحة الغد وقبل أن أتناول وجبة الإفطار. هرعت إلى غرفة تقع في قبو منزلنا حيث كنا نحتفظ بأشيائنا القديمة، واستخرجت كل كتبي القديمة التي تتعلق بالفيزياء والرياضيات، بدءا من السنة الأولى إعدادي، ورتبتها على الرف بجانب مكتبي، وأقسمت أن أطحن في رحى عقلي بذور هاتين المادتين حتى تزدهر حقولها في دمي، وأتحول إلى مقاتل لا يقهر، يثير الرعب في قلوب خصومه على حلبتيهما. سأكون 

كالعاصفة التي لا تهدأ، وكالنار التي لا تُطفأ، أقاتل بشراسة وعزيمة لا تلين حتى أحقق النصر المبين. 

ومنذ ذلك اليوم، صرت لا أغادر حجرتي إلا ناذرا. أقضي وقتي كله في الدراسة والتأمل. لا أغادر فكرة إلا وأهضمها، ولا مفهوما، ولا خاصية، إلا واستوعبها أعمق ما يكون الاستيعاب. حتى انقضت عطلة الصيف ووجدت نفسي ألتحق بفصلي بأحد أقسام الجدع المشترك شعبة العلوم. وما كدت ألتحق بالفصل وأقارن بين مستواي ومستوى أقراني في الدراسة، حتى أدركت حجم التقدم الذي أنجزته، ومقدار التطور الذي بلغته. شعرت بعضلات ذهني بدأت فعلا تنفتل، وأوتاره تبرز، وتتميز. وبدأت أطياف الخوف تتراجع للخلف في نفسي، تحت ضربات إصراري، وعزمي. 

وما إن ظهرت النتائج الأولى للجزء الأول من السنة الدراسية، حتى طلعت الأول بين زملائي في مادتي الرياضيات والفيزياء. فاكتسبت ثقة بنفسي جعلتني أعلم منذ ذلك الحين، أن لا شيء يمكن أن يصمد أمام تفاني فدائي بطل، عقد العزم أن يفتدي وطنه بروحه. 

وأن يد الإنسان يمكن أن تمسك بأي شيء إن هي فعلا اشتدت قبضتها عليه. 

ومضت تلك السنة وأنا الأول على دفعتي. ثم السنة الموالية، حتى انتهيت إلى قسم الباكالوريا. فواصلت عدوي بخطى منتظمة، كما يواصل العداء ركضه على مضمار السباق. 

كم كان اندهاش والدي كبيرا وانبهاره هائلا عندما اطلع على المعدلات السامقة التي حصدتها بعد الامتحان. لم يصدق عينيه. قال لي ذات يوم وهو يودعني بعيون دامعة بعد زيارة سريعة، جاء فيها ليتفقد أحوالي في مدرسة الحسنية للأشغال العمومية: 

"كنت أعلم أن الشعر سيفعل بك مفعوله يا ولدي... إنك أنت الابن الذي طالما حلمت به حقا".

About Me
Abderrahmane Hassani

I'm a traveler, wanderer, explorer, and adventurer of life's great journey.

About Me
Abderrahmane Hassani

I'm a traveler, wanderer, explorer, and adventurer of life's great journey.

About Me
Abderrahmane Hassani

I'm a traveler, wanderer, explorer, and adventurer of life's great journey.

التعليقات

إبقَ على اطلاع

مقالات قد تنال إعجابك

Apr 29, 2025

...الضوضاء والصراخ و "خذ وهات" تملأ الأجواء في كل مكان. الناس يتدافعون في الأسواق، وفي محطات القطار، والمترو، وفي الملاعب الرياضية

Apr 29, 2025

...الضوضاء والصراخ و "خذ وهات" تملأ الأجواء في كل مكان. الناس يتدافعون في الأسواق، وفي محطات القطار، والمترو، وفي الملاعب الرياضية

Apr 29, 2025

...الضوضاء والصراخ و "خذ وهات" تملأ الأجواء في كل مكان. الناس يتدافعون في الأسواق، وفي محطات القطار، والمترو، وفي الملاعب الرياضية

Apr 29, 2025

...بدا متوترا في جلسته، وهو يعيد للمرة الثالثة مراجعة أوراقه، على ضوء أشعة الشمس المتسللة من النافذة التي كان يجلس تحتها، في الحجرة الشرقية لبيتهم القديم الواقع في أقصى الجهة الغربية للقرية حيث كبر وترعرع

Apr 29, 2025

...بدا متوترا في جلسته، وهو يعيد للمرة الثالثة مراجعة أوراقه، على ضوء أشعة الشمس المتسللة من النافذة التي كان يجلس تحتها، في الحجرة الشرقية لبيتهم القديم الواقع في أقصى الجهة الغربية للقرية حيث كبر وترعرع

Apr 29, 2025

...بدا متوترا في جلسته، وهو يعيد للمرة الثالثة مراجعة أوراقه، على ضوء أشعة الشمس المتسللة من النافذة التي كان يجلس تحتها، في الحجرة الشرقية لبيتهم القديم الواقع في أقصى الجهة الغربية للقرية حيث كبر وترعرع

Apr 29, 2025

.عندما سئل أينشتاين عن موهبته، أجاب ببساطة

Apr 29, 2025

.عندما سئل أينشتاين عن موهبته، أجاب ببساطة

Apr 29, 2025

.عندما سئل أينشتاين عن موهبته، أجاب ببساطة

Apr 29, 2025

.أنا اليوم، لست ما كنت عليه البارحة

Apr 29, 2025

.أنا اليوم، لست ما كنت عليه البارحة

Apr 29, 2025

.أنا اليوم، لست ما كنت عليه البارحة

اشترك في النشرة البريدية

تصلك مقالاتنا مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

© 2025 Hamasat. Créer par MonkeyDzign.

اشترك في النشرة البريدية

تصلك مقالاتنا مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

© 2025 Hamasat. Créer par MonkeyDzign.

اشترك في النشرة البريدية

تصلك مقالاتنا مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

© 2025 Hamasat. Créer par MonkeyDzign.