أريكة على السطح

الضوضاء والصراخ و "خذ وهات" تملأ الأجواء في كل مكان. الناس يتدافعون في الأسواق، وفي محطات القطار، والمترو، وفي الملاعب الرياضية، والمستشفيات، والمدارس، والجامعات. وحتى في المكاتب الحكومية. في زحمة الشوارع، تتكدس السيارات كأنها طابور طويل من أحجار الدومينو، وتتصاعد أصوات التنبيهات كأنها إنذارات متكررة، وكأن المدينة تستعد لقصف وشيك. المَرْكبات تتزاحم بلا هوادة، والهواء يختنق بروائح العوادم، والحرارة المتصاعدة من المحركات. فتشعر بالاختناق تحت وطأة الانتظار الطويل. أينما توجهت، تحس بالضيق والاختناق، وكأن العالم بأسره يئن تحت وطأة الضجيج، والفوضى العارمة.
الخروج إلى الشارع للتسوق أو لقضاء بعض المهام أصبح تحديا حقيقيا يجب عليك مواجهته في كل آن. ففي كل مرة تغادر فيها باب منزلك، يجب عليك أن تصطحب عقلك معك وألا تنساه أبدا خلف ظهرك في مكان ما. عليك أن تنتبه للسيارات التي يقودها أشخاص مشوشون، بسبب ضغوطات الحياة، والمشاكل الزوجية، والديون المترتبة عليهم.
وللدراجات النارية التي يقودها شباب متهورون تحت تأثير الكحول والمخدرات، يتظاهرون بالبطولة ويسعون جاهدين ليظهروا أهميتهم أمام الآخرين. كما يجب عليك أن تحتاط من رجال الشرطة الذين يتربصون بالسائقين في كل مكان، خلف الأشجار، وخلف أعمدة الكهرباء، وفي زوايا الشوارع عند المنعطفات.
وأن تأخذ حيطتك من بائعي الخضار في الأسواق الذين قد يبيعونك خضارا فاسدة أو يغشونك في الوزن أو في الحساب .و بعد عودتك إلى المنزل في المساء يجب أن تقوم بإنجاز الأشغال التي لم يسعفك الوقت لإنهائها في مكتبك، و الابتسام في وجه زوجتك، ومساعدتها في أشغال البيت والمطبخ وفي تغيير حفاظات طفلكما الرضيع الذي لا يكف عن البكاء وأن تستنزف عقلك في تحظير دروس الرياضيات والفيزياء وعلوم الحياة والأرض لإعادة تلقينها لأبنائك الذين يعانون باستمرار من غياب بعض المدرسين، ومن تماطلهم في شرح الدروس بكيفية واضحة قصد إجبارك على دفع تكاليف النقل والساعات الإضافية.
ثم بعد ذلك عليك أن تخرج من المنزل ليلاً لتتفقَّد سيارتك، وتطلب بلطف من صعاليك الحي المتجمعين أسفل شرفتك، أن يخفضوا أصواتهم لعلك تستطيع أن تهدأ وتهجع لبضع ساعات.
الحياة تحولت الى جحيم لا يطاق. ففي كل يوم تتعرض مستقبلاتنا العصبية لوابل كثيف من الضغوطات الناتجة عن المشاكل المالية، وغلاء المعيشة، والصراعات المتواصلة في الشارع، وفي العمل، والبيت، والضوضاء الناجمة عن ارتفاع الكثافة السكانية، وقلة النوم، والأخبار الموحشة والتوقعات المرعبة. أصبحنا نعيش كما تعيش الدواجن التي تتم تربيتها في المزارع الصناعية. اكتظاظ، وفوضى، وروائح كريهة ونقيق، وصخب، بعضه يموج في بعض، ينقره، ويعتليه، ويتبرز عليه، تحت أقدام المربين الذين لا يهمهم من المزرعة سوى جمع البيض، وتكديس اللحم، وتخزينه في البرّادات ليتم بعد ذلك تصديره إلى الخارج.
حياة بغيضة توشك أن تتهاوى إلى الحد الذي يصبح الإنسان عنده يتمنى الموت. لقد أضحى من أوجب الواجبات على إنسان هذا العصر أن يقتطع ساعة من وقته كل يوم يخلو فيها مع نفسه ليحرر أعصابه من التوتر والإجهاد النفسي اللذين راكمهما خلال يومه. بعيدا عن صخب الحياة وضجيجها.
تلك الساعة ليست مجرد وقت مستقطع سيتم إهداره في لا شيء. بل هي لحظة تأمل واستعادة للتوازن النفسي.
يمكن لكل واحد منا أن يهيئ لنفسه زاوية خاصة به، يضع فيها أريكته المفضلة في مكان هادئ على سطح المنزل. هناك، يمكنه أن يجلس كل يوم ليستمتع بالسكينة والهدوء، بعيدا عن ضجيج الحياة اليومية وصخبها. هذه اللحظات من التأمل والاسترخاء ستساعده على التخلص من التوتر واستعادة توازنه النفسي والعصبي، يرفع عينيه صوب السماء ويسافر بروحه بعيدا خارج الغلاف الجوي وينظر إلى الأرض من هناك. من حيث تبدو له الأرض كجوهرة زرقاء تتلألأ وسط الظلام، محاطة بهالة من السحب البيضاء، والسماء من حولها تتلون بألوان لا حصر لها، من الأزرق العميق إلى الأسود المخملي، مرصعة، بنجوم تلمع كالألماس. في هذا الفضاء الواسع، يشعر الإنسان بصغر حجمه أمام عظمة الكون، ويستشعر روعة الخلق والإبداع الإلهي.
هذه التجربة الفريدة ستمنحه شعورا بالسلام الداخلي والطمأنينة العميقة عندما يدرك أن همومه اليومية وتوتراته العصبية تتلاشى أمام هذا المشهد البديع. ويعود إلى الأرض بروح متجددة، مليئة بالأمل والتفاؤل، مستعدا لمواجهة تحديات الحياة بروح جديدة، ونفس سعيدة مرتاحة.
التعليقات
إبقَ على اطلاع