النملة الحمراء

وأنا غض صغير، لا أزال في ريعان صباي، وريق طفولتي...كانوا يلقبونني في البيت بالنملة الحمراء لفرط حركتي، ودوام نبشي، وقدرتي العجيبة على الانتشار السريع في جميع أركان البيت. لدرجة أن أمي كانت تخشى علي أن أغادر البيت على حين غفلة من سمعها، فتبادر إلى إقفال بابه بالمفتاح. وتهرع إلى باب السطح فتوصده دوني لئلا أتسلل إليه وأغيب عن عينها الحارسة التي لم تكن تفارقني إلا لبضع ساعات بالليل حين أتعب وأكل، وأسقط في أحضانها خامدا كالجرو، فتطبع على خدي عدة قبلات دافئة وتسرع بي لتضعني في مهدي الصغير بجوارها حيث كنت أنام.
خال والدي البكر كان أول من تنبه لفرط زخمي، وحركتي السريعة، فلقبني بالنملة الحمراء. أما بالنسبة لوالدَيَّ، فكانا يرياني عاديا، طبيعيا، لا أفترق في شيء عن باقي الصبيان في مثل سني. لكوني كنت بكرهما الأول، ولم يكونا حينها قد اكتسبا بعد، دراية كافية في التربية يميزاني بها عن باقي الأطفال. ضحك والدي حتى بدت نواجده لما علم باللقب الذي أطلقه عليَّ خاله. وراقَه فيه إضافة صفة اللون الأحمر إلى النملة. إذ به تتميز هذه الحشرة عن غيرها من النمل. وبه اشتهرت لدى الناس بزخمها وفضولها وكفاءتها العالية في الاستيلاء والهيمنة.
هكذا أوفيت الست سنوات الأولى من عمري بين أعمدة البيت وزواياه. أنتقل بين غرفه وأركانه. لا أدع شيئا في المطبخ إلا وأستطلعه، أو أدحرجه، أو أكسره، ولا دبا أهدته لي عمتي، ولا أسدا، إلا وأكلِّمه، وألْكَمه وأُنقِّب في عينيه وأذنيه لأجْلُو سر سكوته عني.. ولا قطار ولا سيارة أو طائرة إلا أسوقها وأطير بها وأنتقل بها بين المدن في فناء البيت، حتى جاء اليوم الذي التحقت فيه بالمدرسة.
كان يوما من أيام طفولتي يتعذر علي أن أنساه. أخذ أبي بمعصم يدي حتى لا أفلت منه، وذهبنا معا إلى مكتب مدير مدرسة ابتدائية قريبة من بيتنا لكي يتم تسجيلي هناك وكان يشترط حينها أن يكون الطفل قد بلغ السابعة. إلا أن المدير لم يوافق على قبولي في مدرسته إلا بصعوبة بالغة، ولم يقتنع إلا بعد أن أكد له والدي بأني وإن كنت في السادسة، فإني أتقن القراءة جيدا، والكتابة بخط حسن، ومهذب وخلوق، وذو مزاج هادئ. ولما انتهيا من الحديث الذي كان يدور بينهما، فتشا عني فلم يعثرا لي على أثر. اختفيت فجأة من المقعد الذي كنت أجلس عليه قبالة والدي، واستدرت خلف مكتب المدير، وفتحت درجه الأسفل، وأخذت في استطلاع ما بداخله من أوراق. إلى أن تنبه إلي بعد انتهاء الحديث وأغلق الدرج، وأعادني إلى مقعدي حيث كنت أجلس قبالة والدي ومازحه قائلا:
"بما أنه هادئ ومهذب وخلوق سأقبل به في مدرستي مؤقتا، إلى حين يجيء الوقت الذي أتخذ فيه قراري الأخير "
ولم يجد المدير بدًّا من قبولي رسميا في مدرسته بعد ظهور نتائج ثلث السنة الأول. حصلت على المركز الأول في قسمي. وحصل لقاء ثان بين والدي ومدير المدرسة حيث أخبره هذا الأخير بأنه مسرور جدا من مُحصِّلتي ونتائجي، وأنه لما استفسر المعلمين عني أكدوا له بأني نجيب وممتاز ولامع، لولا حركتي الزائدة في المدرسة. وكاد يسوء ظن والدي بي عندما تأول حركتي الزائدة على معنى الطيش والشغب وعدم احترام المدرسين. إلا أن المدير سارع إلى طمأنته وتهدئته بأنه قصد بذلك نبشي، وفضولي الزائد، وكثرة طرحي للأسئلة.
لم يتغير في شيء ذو بال في سلوكي لما كبرت وانتهيت إلى الثانوي. ظللت نفس تلك النملة الحمراء النارية التي لا تسكن ولا يهدأ لها بال، حتى تبعثر الأوراق تحت أقدامها وتحفر الأرض وتقلِبها، وتحصل على ما جاءت تنقب عنه. في البيت أضرم النار في رأس أبي من كثرة الأسئلة التي لا تنتهي، وفي القسم أفجر رؤوس الأساتذة من كثرة استفساراتي وفضولي وتوقي الشديد إلى المعرفة.
ماذا أعمل؟ تلك هي طبيعة سلوكي ولا أستطيع ان أغيره. النمل الأحمر الناري ليس بمقدوره أن يتحول إلى نمل آخر عادي. لا بد له أن يلتف، ويراوغ، ويناور، بل ويلسع، ويلدغ، ويعض ليصل إلى غايته. هاذا هو أنا. هذا هو كنه طبيعتي التي لا أستطيع أن أغيرها. وللأمانة. فلا والدي، ولا جميع المدرسين الذين ساقتني الأقدار لأدرس عندهم تقاعسوا عن الإجابة على معظم تساؤلاتي. بل على العكس من ذلك.. كانوا جميعهم مخلصين صادقين في بذل الجهد من أجل إرضائي والرد على كثرة أسئلتي التي لا تنضب بتاتا، وشره نهمي الذي لا يشبع على الإطلاق. كانوا يجيبون. ولكني كنت أشعر دائما أنهم يتوقفون في السلم عند الدرج ما قبل الأخير... فلا يقدرون على تجاوزه. بينما كنت أنا التهب من التلهف، وأحترق من الشوق، لأصعده وأطل على النتيجة من الأعلى.
ماذا أفعل؟ لابد لي من إفراغ سلتي من كل الأسئلة.
ذات مرة بذلت مدرسة البيولوجيا كل جهودها في الفصل وهي تشرح لنا درسا يتعلق بعملية الإخصاب عند الإنسان. وعندما انتهت من تقديم الدرس. استولى علي ذهول عميق وأنا أتأمل سلوك البويضة لدى الأنثى أثناء عملية الإخصاب وتعجبت من تصرفها الذكي والمناسب الذي كانت تقوم به عند كل طور من أطوار تخلقها. فرفعت أصبعي واستفسرت المدرسة عن الكيفية التي تعرف بها البويضة ما الذي يتعين عليها أن تقوم به. فأجابتني بأن سلوك البويضة هو سلوك طبيعي وأن هاذه هي طبيعة الأشياء في الطبيعة كلها ولا جدوى من طرح أسئلة ذات طابع من هذا النوع.
طبعا لم يقنعني هذا الجواب، وأوغلت في مناقشتها ومجادلتها ومساءلتها حتى استسلمت وأجهشت في البكاء وانتهت الحصة دون أن ننتهي إلى أية نتيجة...
نفس الشيء كان يحصل مع مدرس الرياضيات والفيزياء. ووالدي في البيت وغيرهم ممن شاءت لهم أسواء حظوظهم أن تتقاطع سبلهم مع سبلي. أثناء شرحه لجزء من قوانين ديناميكا الحركة يتعلق بالقانون الأول لنيوتن، أو ما يسمى بقانون القصور الذاتي، فصل لنا مدرس الفيزياء نص هذا القانون وأوضح لنا بان الجسم الساكن يبقى دائما في حالة سكون، والجسم المتحرك يبقى متحركا في نفس السرعة وبنفس الاتجاه، ما لم تؤثر عليه قوة خارجية تغير من حالته. فتعجبت من الجسم المتحرك كيف يبقى متحركا في الفراغ. ولم يستسغ عقلي حينها تصرفه هذا. بدا لي أن عليه أن يتوقف بعد حين، لما ينتهي من هضم كمية الطاقة التي تحركه. فتعجب المدرس من عجبي وحاول إقناعي بشتى الأمثلة مبررا حججه بأن هاذه هي طبيعة الأشياء في الطبيعة، وعلينا ان نقبل بهذا ولا نسأل. بل لا يجوز لنا أن نطرح مثل هذه الأسئلة.
لكني مشاكس، ومتعنت، وعنيد.
قرنا النملة الحمراء النارية اللتان فوق رأسي المتخصصتان في الاستشعار والاستبصار والتواصل والتوجيه لا يمكن ان تقبلا بهذا القانون.
أريد جوابا لكل سؤال.. أريد ان أتسلق السلم حتى نهايته لأنظر من فوق، من علو، لكي أستريح. والله لن أغرق في تفاصيلهم. سأظل أساءلهم وأعاكسهم وأطاردهم حتى يقولوا الحقيقة كل الحقيقة. إن كانت بحوزتهم حقيقة. أما أن يستغفلوني ويستحمروني ويخدعوني ويقولون أنه لا يجب طرح مثل هذه الأسئلة فإني لهم بالمرصاد. لن أطلق عقلي ما بقي نبض في حياتي. سأظل دائما هكذا. وغدا وبعد غد. وكما أنا اليوم وقد كبرت وصرت أبا. سأظل نفس ذاك الطفل الصغير الذي كُنْتُه. الذي لا يكفُّ عن طرح الأسئلة..
الأسئلة الوجيهة. التي تقود إلى الحقيقة. وإلى إماطة اللثام عن السر الذي أتى بهذا الوجود. لن اكتفي أبدا بمعرفة القوانين التي تبقى في نهاية المطاف مجرد قوانين تصف سلوك الأشياء في الطبيعة. أريد أن أعرف لماذا هي هكذا. لأن هذا السؤال هو الدرج الأخير على سلم الأسئلة الذي يجب أن أتسلقه، لأصعد فوق الطبيعة، وأنظر من هناك إلى جمال الحقيقة الأزلية...الحقيقة التي أوجدت كل الأشياء من العدم، وهدتها لتكون ما كانت عليه وما هي كائنة عليه لحد الآن.
التعليقات
إبقَ على اطلاع