HAMASAT

HAMASAT

النظــارة

نخيل معي أنك قررت أن تقوم بجولة في إحدى الحدائق القريبة من منزلك. لتتخفف من ثقل روتينك اليومي، وتتخلص من عبء الغم الذي بجثم على كاهلك. بدت لك الأشجار تحيط بك من كل الجهات. والزهور تملأ الأجواء بعطرها العادي الذي تعودت أن تستنشقه. لكنك لم تكن تتذوق شيئا من هذه السمفونية المتكررة. وفجأة وبينما أنت تطوف بين الأشجار، لمحت شيئاً يلمع بين الأعشاب. انحنيت لتلتقطه، فإذا بها نظارة سحرية وضعتها على وجهك، وإذا بالعالم يتغير فجأة أمام عينيك. انقلبت نظرتك للأشياء دفعة واحدة. فالأشجار التي كانت تبدو لك عادية، تحولت بغتة إلى عرائس فاتنة، تتمايل برشاقة في رقصات ساحرة. كأنها تنبعث من تصاوير فنية نتوهج بالجمال، أوراقها تتلألأ بألوان زاهية كأنها رصعت بالجواهر والحلي. كل ورقة تحكي قصة، وكل غصن يهمس في أذنيك بأسرار حقائق الكون الأزلية، القادمة من أعماق الزمن. الناس من حولك بدوا وكأنهم خرجوا من حكايات شهرزاد، وجوههم مشرقة والابتسامات تنط من وجناتهم، دافئة تملا الأجواء بالفرح والبهجة. شعرت بحيوية وسعادة لا توصف، وكأنك ترى العالم لأول مرة. أو تتجول على سطح كوكب غريب، لم يسبق لأحد أن زاره. حتى الهواء كان يبدو لك أكثر صفاء، يحمل في نسماته عطر الزهور، وألحان الطبيعة الأزلية الموغلة في غياهيب الزمن. كل شيء ينبض بالجمال والروعة، وكأنك عيش في حلم جميل، لا تريد أن تستيقظ منه.

هل صدقتني؟ هذه النظارة لا وجود لها على أرض الواقع.

البحث عنها مجرد هراء. لكن.. مهلا.. قلت: «لا وجود لها على أرض الواقع». وهذا يعني أني لم أنف وجودها على الإطلاق.

ولم أنكر كينونتها على أي شكل. فهي موجودة وقابلة للوجود.

بل ومتوفرة، لكن ليس بكثرة. موجودة وقابلة للوجود. لكن، على غير أرض الواقع..

إنها موجودة فيَّ وفيك وفي كل أحد. في الداخل، في كل واحد منا.. تنتظر كالعروس من يخطب يدها.. من يبدعها ويُثبِّتُها أمام عين بصيرته، ليضبط بها انحراف نظرته لهذا الوجود.. إنها هناك في أعماق ذواتنا المستترة رابضة. تترقب أن يتسلل إليها وعي إنسان حي. فينقلها من حيث هي إلى مقدمة شاشات الوعي الخالص، حيث تنعكس صور هذا العالم القادمة إلينا من الخارج.. إنها نظارة حقيقية.. لكنها صنعت من وعي. من أمهات الكتب التي اختزلت فيها بعض أسرار هذا الكون.. من رحيق الفيزياء، وخمر الجبر، وعصارات الفلسفة.. إنها الجوهر الغالي الذي تعي به النفس المدركة الأشياء التي تحيط بها في هذا العالم.

فالفيزياء تقلب نظرتك البلهاء إلى السماء من حملقة غبية لا إثارة فيها ولا إعجاب، إلى نظرة مذهلة. مثيرة للخوف والرهبة..

بما ألقت في روعك من أسرار تتعلق بالسدم والمجرات وأحجامها. وما تحتوي عليه من نجوم وكواكب بأعداد يدور لها الرأس. وما علمتك إياه عن الانفجار العظيم الذي انبثق عنه هذا الكون. ودقة الثوابت الفيزيائية التي تحكمه، والتي لو انزاحت عن قيمتها شعرة رأس، لما كنت هنا لأحدثك..

والبيولوجيا تعدل وجهة نظرك عن كل الكائنات الحية التي تدب فوق هذا الكوكب.. فتتغير نظرتك للهر المستلقي فوق أريكتك يصدر صوت الشخير. فتتحول رؤيتك له من مجرد حيوان تافه يستجديك الطعام إلى عجيبة من عجائب الحياة المذهلة.. لأنه أصبح بإمكانك أن تندهش من غرابة هذا الجهاز الذي بسمى الهر.. وتتساءل عن عجيبة تربصه بالحشرات، وسقوطه الحر على قوائمه عندما يلهو به الأطفال، ويدحرجونه من الأبنية. وشكل عينيه اللتين تعقب بهما الهوام، وحركة أذنيه المرنتين عندما تدوران كدورة صحن الرادار حينما يلتقط الموجات الصوتية المنبعثة من أقدام خنفساء هاربة تحاول ان تقطع عرض الفناء، وكل الأعضاء التي تشكله وما تحتوي عليه من خلايا نفوق في تعقيداتها تشابكات أرقى مصنع الكرتوني اهتدى إليه الذكاء الياباني.

ومن ثم تتملكك حالة من الخشوع والتواضع كلَّما وقع بصرك على كائن حي تحمل وإياه تذكرة سفر على ظهر هذه السفينة الفضائية التي نسميها الأرض.

فتدرك قيمة احترامك له، وتعي أهمية حنوّك عليه. فتسارع إلى رفع قدمك تتجنب دهس نملة ضئيلة تعبر بهو المنزل، وهي تحمل بين فكيها فتات خبز يابس اختلسته من مطبخك. وتتذكر ما قرأته عن جحر النمل وما فيه من أنفاق وممرات ضيقة أعدها مجتمع النمل لكي يحى في بيئة دقيقة ومعقدة. وتتدفق الأسئلة في ذهنك وتدهشك الدقة البالغة التي يدير بها النمل مجتمعه، فتجد نفسك مقتنعا بوجود برنامج تمَّ تثبيته في أدمغته، يرشده إلى الأسلوب الأمثل الذي يجب اتباعه لضمان استمراره..

وتبتسم ساخرا من ترهات نظرية التطور، وتتعجب من إيمان أتباعها باستنتاجاتها الحمقاء التي توصلوا إليها. فتتطامن فسك ويتلاشى كبرياءك وتحس أن اليد الحاذقة التي صممت جسم النملة هي ذاتها التي أبدعتك، وأن خلف الستارة بكمن ذكاء رهيب.

ولو حدث وأدرت وجهك صوب الإنسان، فإنك ستُدهش لما ستراه في سجلاته.

متنبهر بما حققه منذ اختراعه للعجلة وحتى نزول على سطح القمر. ستقف مبهورا أمام كفاحه وإصراره لكشف أسرار الكون. لكنك في الوقت ذاته، متشعر بالحزن والأمى عندما تدرك عدد الحروب التي خاضها، والدماء التي أراقها في صراعاته ضد نفسه، لأسباب عرقية أو دينية أو إمبريالية، تعكس حجم الحيوانية المفرطة التي لا تزال تتحكم لحد الآن في نزواته.

ويروعك ما آل إليه حال إنسان اليوم خاصة من تدن وانحطاط على مستواه الأخلاقي وتعجب من قتل الإنسان لأخيه الإنسان من أجل كسرة خبز أو في سبيل قطعة أرض على الرغم من علمه بأن هذا جرم لا يليق بمثله.

إلا أنه يصر على أن يواصل ارتكاسه في الحماة. وأغرب ما يروعك وأنت تقلب صفحات سجلاته انحسار الثروات في يد فئة قليلة على حساب أغلبية عظمى نئن تحت وطء الفقر والحاجة. ويتعمق فهمك وتتوسع رؤيتك وتجد نفسك كحصان أمام عربة تحمل كتبك تعدو بها على طريق المعرفة تلهب ظهرك بنياط الفلسفة.

وتدرك بعد حين.. أنك لا تعدو ان تكون.. مجرد فقاعة صابون..

كتب لها ان تكون. ثم تتلاشى بعد أن أضاءت لحظة من زمن

About Me
Abderrahmane Hassani

I'm a traveler, wanderer, explorer, and adventurer of life's great journey.

About Me
Abderrahmane Hassani

I'm a traveler, wanderer, explorer, and adventurer of life's great journey.

About Me
Abderrahmane Hassani

I'm a traveler, wanderer, explorer, and adventurer of life's great journey.

التعليقات

إبقَ على اطلاع

مقالات قد تنال إعجابك

Apr 29, 2025

...كان والدي طرازا من الرجال ليس كسائر الرجال. أحب الأدب لدرجة أنه قرر ذات مرة أن يشعل ثورة في البيت، ويرغمنا جميعا على التحدث باللغة العربية

Apr 29, 2025

...كان والدي طرازا من الرجال ليس كسائر الرجال. أحب الأدب لدرجة أنه قرر ذات مرة أن يشعل ثورة في البيت، ويرغمنا جميعا على التحدث باللغة العربية

Apr 29, 2025

...كان والدي طرازا من الرجال ليس كسائر الرجال. أحب الأدب لدرجة أنه قرر ذات مرة أن يشعل ثورة في البيت، ويرغمنا جميعا على التحدث باللغة العربية

Apr 29, 2025

...الضوضاء والصراخ و "خذ وهات" تملأ الأجواء في كل مكان. الناس يتدافعون في الأسواق، وفي محطات القطار، والمترو، وفي الملاعب الرياضية

Apr 29, 2025

...الضوضاء والصراخ و "خذ وهات" تملأ الأجواء في كل مكان. الناس يتدافعون في الأسواق، وفي محطات القطار، والمترو، وفي الملاعب الرياضية

Apr 29, 2025

...الضوضاء والصراخ و "خذ وهات" تملأ الأجواء في كل مكان. الناس يتدافعون في الأسواق، وفي محطات القطار، والمترو، وفي الملاعب الرياضية

Apr 29, 2025

...بدا متوترا في جلسته، وهو يعيد للمرة الثالثة مراجعة أوراقه، على ضوء أشعة الشمس المتسللة من النافذة التي كان يجلس تحتها، في الحجرة الشرقية لبيتهم القديم الواقع في أقصى الجهة الغربية للقرية حيث كبر وترعرع

Apr 29, 2025

...بدا متوترا في جلسته، وهو يعيد للمرة الثالثة مراجعة أوراقه، على ضوء أشعة الشمس المتسللة من النافذة التي كان يجلس تحتها، في الحجرة الشرقية لبيتهم القديم الواقع في أقصى الجهة الغربية للقرية حيث كبر وترعرع

Apr 29, 2025

...بدا متوترا في جلسته، وهو يعيد للمرة الثالثة مراجعة أوراقه، على ضوء أشعة الشمس المتسللة من النافذة التي كان يجلس تحتها، في الحجرة الشرقية لبيتهم القديم الواقع في أقصى الجهة الغربية للقرية حيث كبر وترعرع

Apr 29, 2025

.عندما سئل أينشتاين عن موهبته، أجاب ببساطة

Apr 29, 2025

.عندما سئل أينشتاين عن موهبته، أجاب ببساطة

Apr 29, 2025

.عندما سئل أينشتاين عن موهبته، أجاب ببساطة

اشترك في النشرة البريدية

تصلك مقالاتنا مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

© 2025 Hamasat. Créer par MonkeyDzign.

اشترك في النشرة البريدية

تصلك مقالاتنا مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

© 2025 Hamasat. Créer par MonkeyDzign.

اشترك في النشرة البريدية

تصلك مقالاتنا مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

© 2025 Hamasat. Créer par MonkeyDzign.