HAMASAT

HAMASAT

أرسم صورة لنفسك

في إحدى مراحل حياتي، استحوذ علي الغرور بعد أن شعرت بالفخر لحصولي على وظيفة كنت أعتبرها أعظم نجاح حققته آنذاك. كانت رحلة الوصول إليها مليئة بالتحديات، بعد سنوات طويلة من الكفاح والحرمان، حققت أخيرا ما كنت أطمح إليه.. تغيرت حياتي بشكل جذري، وأصبحت أعيش بأسلوب مختلف، متناسيا القيم والمبادئ التي كانت تملأ حياتي بالمعنى... كنت بالأمس القريب أبحث عن فلسفة الحياة في كوب شاي، أو في دعوة صالحة من دعوات أمي وهي تودعني عند الباب لألحق بالقطار من أجل مواصلة دراستي. 

واليوم، بعد أن حصلت على الوظيفة، تغيرت. صرت أبحث عن فلسفة الحياة في حسابي البنكي، وفيما تذره علي الوظيفة من مداخيل، وعلاقات راكمت في نفسي أدخنة كثيفة من الغرور والزهو وحب الذات، حادت بي بعيدا عن سبل الجمال والرقة والصدق، التي لم أكن أنزح عنها منذ تعلمت كيف أعمل ذهني في التنقل عبر سبل الحياة.. لكن يد القدر، التي تغاضت عني قليلا في المراحل الأولى من حيودي، لم تمهلني طويلا. 

باغتتني بسلسلة متتالية من المتاعب والهموم، وكادت أن تقلب بي الزورق الذي كنت أركبه، لولا أن يدها كانت رحيمة بي، فعادت وأعادت تثبيتي على ظهره. وكأنها أرادت فقط أن تؤدبني وتقول لي: 

"أيكفيك هذا؟  أم ترغب في المزيد؟ " 

فعدت ذليلا صاغرا إلى بيت الطاعة كجرو مبلول، وكأنني فهمت الرسالة وقلت: 

"حسنا، لقد فهمت، لا حاجة للمزيد من الدروس". 

فهمت بصدق فحوى الرسالة، وشعرت بالذنب، واحتقرت نفسي التي جرفتها الرياح، كأنها لم تكن تزن شيئا في ميزان القيم، ولم تكن متشبثة بأي شيء يثبتها في وجه العواصف التي قد تهب. 

ماذا حدث؟ لماذا تغيرت بهذه السهولة؟ لماذا فرطت في القيم التي كانت تمنحني القوة والثقة؟

 كتلك التي نعاينها بعيني الإعجاب في سلوك الساموراي حين يزهو بنفسه ويفخر بها عندما يستل سيفه في ساحات الشرف، لا يهاب شيئا، واثق بنفسه ومعتد بها. 

لماذا يغير الإنسان جلده عند أول امتحان يتعرض له؟ هل لأنه لم يكن متعودا على اشتمام رائحة المال، فلما تصاعد ريحه إلى رأسه اختلطت عليه الأمور فأربكته؟  أم لأنه أصبح يعيش في وسط مختلف؟  أم لأنه لم يكن يؤمن بمبادئه إيمانا راسخا؟

فلما تعرض لأول اختبار اكتشف أن إيمانه ذاك، لم يكن من الصلابة بحيث يصد عنه الإغراء... 

في لحظة من التأمل الصادق، قررت أن أراقب نفسي وأعيد تقييمها من جديد خشية أن تخدعني مرة أخرى وتوقعني في نفس الخطأ. بدأت أسجل كل تصرفاتي وملاحظاتي بدقة متناهية بهدف الوصول إلى تقييم دقيق لهويتي وكنهي. وبعد سنة من المراقبة الدقيقة، خرجت بنتائج مبهرة، واكتشفت أشياء لم تكن تخطر لي على بال. كانت هذه التجربة بمثابة مرآة عاكسة، أظهرت لي حقيقة نفسي وأعطتني فهما أعمق للحياة وللآخرين من حولي.

 اكتشفت أن ممارسة الصدق ليست بالأمر السهل. وعرفت أنني عشت متأرجحا بين الصدق والكذب، وبين النزاهة والنفاق، وبين الذكاء والغباء، وبين الكرم والبخل، وبين الطيبة والقسوة. لاحظت أن الدافع وراء هذه الصفات كان هو السعي لتحقيق الربح وتجنب الوقوع في الخسارة. أدركت أن الإنسان، دون وعي منه، يتصرف وفق آليات طورها في لا شعوره لحماية نفسه من جهة، ولتحقيق مكاسب له من جهة ثانية. لقد شعرت بنفسي بعد هذه التجربة كأنني فنان، قام برسم لوحة حقيقية لنفسه. ولما انتهى من رسمها، رأى لأول مرة صورة وجهه الحقيقية، ليست تلك التي تعود أن يراها خلف أسطح الزجاج والمرايا، بل صورة وجهه الحقيقية في مرآة المبادئ والقيم. هذه الصورة غالبا ما تكون أقل جمالا مما نراه في المرايا العادية... في تلك اللحظة، أدركت أن الحياة ليست مجرد سباق لتحقيق المكاسب المادية، بل هي رحلة لاكتشاف الذات وتحقيق التوازن بين القيم والمبادئ. بدأت أبحث عن السعادة في الأشياء البسيطة، في لحظات الصدق مع النفس، وفي العلاقات الإنسانية الصادقة. 

تعلمت أن المال ليس هو الغاية، بل هو وسيلة لتحقيق حياة كريمة، وأن القيم والمبادئ هي التي تمنح الحياة معناها الحقيقي. بدأت أستمتع بالأشياء الصغيرة التي كنت أغفل عنها في السابق، كقراءة كتاب جيد، أو قضاء وقت ممتع مع الأصدقاء والعائلة، أو حتى التأمل في جمال الطبيعة. أدركت أن السعادة الحقيقية تأتي من الداخل، من الرضا عن النفس وعن الحياة، وليس من الخارج. بهذا الفهم الجديد، بدأت أعيش حياتي بطريقة مختلفة، أكثر وعيا وأكثر انسجاما مع نفسي ومع الآخرين. 

أصبحت أقدر قيمة الصدق والنزاهة، وأدركت أن النجاح الحقيقي لا يقاس بما نملكه من أموال، بل بما نحققه من تأثير إيجابي في حياة الآخرين.

About Me
Abderrahmane Hassani

I'm a traveler, wanderer, explorer, and adventurer of life's great journey.

About Me
Abderrahmane Hassani

I'm a traveler, wanderer, explorer, and adventurer of life's great journey.

About Me
Abderrahmane Hassani

I'm a traveler, wanderer, explorer, and adventurer of life's great journey.

التعليقات

إبقَ على اطلاع

مقالات قد تنال إعجابك

Apr 29, 2025

...كان والدي طرازا من الرجال ليس كسائر الرجال. أحب الأدب لدرجة أنه قرر ذات مرة أن يشعل ثورة في البيت، ويرغمنا جميعا على التحدث باللغة العربية

Apr 29, 2025

...كان والدي طرازا من الرجال ليس كسائر الرجال. أحب الأدب لدرجة أنه قرر ذات مرة أن يشعل ثورة في البيت، ويرغمنا جميعا على التحدث باللغة العربية

Apr 29, 2025

...كان والدي طرازا من الرجال ليس كسائر الرجال. أحب الأدب لدرجة أنه قرر ذات مرة أن يشعل ثورة في البيت، ويرغمنا جميعا على التحدث باللغة العربية

Apr 29, 2025

...الضوضاء والصراخ و "خذ وهات" تملأ الأجواء في كل مكان. الناس يتدافعون في الأسواق، وفي محطات القطار، والمترو، وفي الملاعب الرياضية

Apr 29, 2025

...الضوضاء والصراخ و "خذ وهات" تملأ الأجواء في كل مكان. الناس يتدافعون في الأسواق، وفي محطات القطار، والمترو، وفي الملاعب الرياضية

Apr 29, 2025

...الضوضاء والصراخ و "خذ وهات" تملأ الأجواء في كل مكان. الناس يتدافعون في الأسواق، وفي محطات القطار، والمترو، وفي الملاعب الرياضية

Apr 29, 2025

...بدا متوترا في جلسته، وهو يعيد للمرة الثالثة مراجعة أوراقه، على ضوء أشعة الشمس المتسللة من النافذة التي كان يجلس تحتها، في الحجرة الشرقية لبيتهم القديم الواقع في أقصى الجهة الغربية للقرية حيث كبر وترعرع

Apr 29, 2025

...بدا متوترا في جلسته، وهو يعيد للمرة الثالثة مراجعة أوراقه، على ضوء أشعة الشمس المتسللة من النافذة التي كان يجلس تحتها، في الحجرة الشرقية لبيتهم القديم الواقع في أقصى الجهة الغربية للقرية حيث كبر وترعرع

Apr 29, 2025

...بدا متوترا في جلسته، وهو يعيد للمرة الثالثة مراجعة أوراقه، على ضوء أشعة الشمس المتسللة من النافذة التي كان يجلس تحتها، في الحجرة الشرقية لبيتهم القديم الواقع في أقصى الجهة الغربية للقرية حيث كبر وترعرع

Apr 29, 2025

.عندما سئل أينشتاين عن موهبته، أجاب ببساطة

Apr 29, 2025

.عندما سئل أينشتاين عن موهبته، أجاب ببساطة

Apr 29, 2025

.عندما سئل أينشتاين عن موهبته، أجاب ببساطة

اشترك في النشرة البريدية

تصلك مقالاتنا مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

© 2025 Hamasat. Créer par MonkeyDzign.

اشترك في النشرة البريدية

تصلك مقالاتنا مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

© 2025 Hamasat. Créer par MonkeyDzign.

اشترك في النشرة البريدية

تصلك مقالاتنا مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

© 2025 Hamasat. Créer par MonkeyDzign.