نقرات غيرت مجرى حياتي

هل تسمعني؟ أجبني؟ هل تسمعني؟ نعم أنا أكلمك أنت. لا تشح بوجهك عني.
لقد جئت لأهمس في أذنيك بعض الأسرار. جئت لأقول لك، أني أعرف كل شيء عنك، أعرف كيف تصبح، وأعرف كيف تمسي، وأعرف أنك تعتقد أن يد الأيام قد تفننت في إيذائك، كما لم يتأذى منها أحد في العالمين. أسمع نحيبك، وأدرك وجعك، وآلامك كل يوم تؤرقني. أنا على علم بسيرتك الذاتية بكل تفاصيلها. لا تسألني كيف علمت؟ أعلم وحسب. لا تسألني؟ هل تظن أنك الوحيد الذي يواجه الصعاب في هذا العالم؟ هل تظن أن معاناتك فريدة من نوعها؟ آه.. لو تعلم يا صاحبي ما مررت به قبلك أنا.. لخجلت من الحديث عن نفسك. وربما لبكيت من أجلي. على كل حال. لن أروي لك تفاصيل حياتي كلها الآن. لأن الوقت ليس وقت سرد. ولكن سأدلك على الباب الذي فررت منه من ويلات الجحيم. أووه. يا لي من غبي....
تصور أنني أهدرت عشر سنين من عمري. أمضيت أيامي فيها أسب الدهر. وألعن الدنيا وما فيها بكل اللغات.. الشتائم والقذائف أكيلها أطنانا وألوانا لكل الحكومات التي ترادفت على تسيير هذا البلد. وحتى أمي التعيسة بسببي أنا، تصور أني وبختها على أنها هي المسؤولة عن مجيئي إلى هذا العالم. لقد ظننت في البداية مثل ما تظن أنت الآن، أن حصولي على شهادة جامعية في الفيزياء كفيل بأن يؤمن لي على الأقل خبزا يابسا ألوكه تحت أضراسي وسقفا أستظل تحته من حر الشمس. لقد دوختني قوانين الديناميكا الحرارية وأتلفت عقلي شطحات فيزياء الكم فغدوت كالمجنون، أحدث عنها في المقاهي غير آبه بحدائي المصروم تحت أقدامي ولا بسروالي الضيق البالي، الذي كان يحجز الدم في عروقي أن يسري. كان علي أن أتبرع به أو أبيعه لمتحف، لو كنت ذكيا. تصور أن جحيم البطالة والحاجة أَوْحَيَا لي ذات يوم أن أحمل سبورتي على كتفي وأتوجه بها إلى ساحة المدينة حيث يعقد المهرجون حلقاتهم. بدا لي أن أقدم مثلهم حلقة ترفيهية عن غرائب فيزياء الكم، لعلي أحظى بإعجاب الناس فأستدر عطفهم، وكدت أشرع في جنوني لولا أن تداركني الله برحمته. استفقت من خبالي في آخر لحظة، وعدت إلى بيتي متثاقلا ألعن ألبرت أينشتين وهيزنبرغ وشرودينجر وقطته وكل من ساهم في اكتشاف هذا الخبال. الحمد لله أنني لم أفعل. لأني لو فعلت، لكانت الحكومة قد بادرت بالزج بي في جحيم المرستان. وبقيت على ذاك الحال فترة من الزمان، أتقلب فيها في العذاب على جمر البطالة والفراغ، أكلم نفسي في الأزقة بصوت مرتفع. إلى أن جاء اليوم الذي سخر الله لي فيه من يوقظني من جنوني. وأنا في المقهى أهذي بفيزياء الكم أمام زمرة من المتسكعين.. أطل علينا وجه ملائكي جميل، وجلس قبالتنا إلى احدى الطاولات وأخرج حاسوبه المحمول من غمده، وانغمس يشتغل عليه مختلسا إليَّ النظر بين الفينة والأخرى. ولما انصرف عني زمرة الصعاليك أمثالي، الذين لم يكونوا يفقهون أي شيء في فيزياء الكم، نهض الملاك الجميل عن مقعده ودنى مني واستأذن في الجلوس قبالتي. بدأ حديثه معي بسؤالي عن مستواي الدراسي ثم عن حالي وأحوالي وهو مطرق يستمع إلي باهتمام حتى انتهيت. عندها فقط رفع بصره إلي ونظر إلي نظرة طويلة وألقى إلي بعبارته التاريخية التي انطبعت في دماغي للأبد:
"هل تريد أن أدلك على شيء ينفعك؟"
فقلت له: "بلى".
أخرج بطاقة زيارته من جيبه ودسها في راحتي، ونادى على النادل ودفع له ثم انصرف. وعند أول زيارة له لاقيته فيها في بيته. شعرت وكأنني أستفيق من كابوس فضيع كاد أن يرديني لو أنه استمر قليلا. خرجت من عالم الكم إلى عالم الواقع. فقد حدثني الشاب الجميل عن التجارة الإلكترونية وعالمها الخفي. أماط الستار أمام عيني عن كل أسرارها وعن النقرة بالفأرة كم تساوي، وما تخفيه لوحة مفاتيح الحاسوب من سبائك من ذهب تحت الأزرار، وعن الأسواق والبورصات والعملات الرقمية.. وما هي إلا أشهر قلائل حتى تعلمت. فصرت الآن أشبهه.. ثريا لدرجة لا تصدق. أصابع راحتي على ظهر الفأرة ممتدة إلى ما لا نهاية في الأسواق، وفي جيوب المشترين عبر الأثير، وفي الأسلاك. أبيع وأشتري، أتذبذب بين بلد العم "ماو تسي" وتجار الجملة. أنتقي منهم ما أشاء. وأموالهم تتساقط في حسابي بغير حساب عبر خيوط النت.
هل تسمعني.. أجبني؟ هل تسمعني؟ أنا أكلمك أنت.
التعليقات
إبقَ على اطلاع