تصنع لحظات الاحتضار

هل سبق لك أن واجهت الموت؟
كأن يتوقف قلبك مثلا عن الخفقان، ويهرع بك محمولا على خشبة إلى مستشفى. ليعلن عن رحيلك من هناك. ثم تشاء الأقدار أن يعود قلبك ليستأنف نبضه... وتعود لتحيا مرة ثانية. أي فيض من السعادة سيغمر قلبك حين تكتشف أنك لم تمت بعد، وأنك لا تزال حيا ترزق... أي انقلاب ستحدث فيك هذه التجربة، بعد أن تعود لتحيا من جديد..
هل سبق لك أن تعرضت إلى حادثة سير؟
كادت أن تمزق جسدك إلى أشلاء... وعندما توقفت العجلات عن الدوران... وأدركت أنك قد نجوت... غمرك شعور عجيب دافق... يمور بالغبطة والراحة والسكون. انقلب حالك فورا من غير أن تحرك ساكنا... وقد كنت قبل لحظات ربما... وأنت مندفع كالرصاصة على الطريق السيار تسب الأيام وما أحدثه الدهر في قلبك من أسى... ممتلئا بالغيظ وبالغضب...
من غير حال من ذاك الحال إلى هذ ا الحال؟
ألم تكن هي نفس تلك اللحظة في تلك الحادثة التي أيقنت نفسك فيها أنك هالك؟
لقد علمتني السكتة القلبية التي تعرضت لها، وحادثة السير التي كادت تودي بحياتي، أن الموت أستاذ عظيم يلقن تلامذته دروسا في الحياة لا يستطيع أي كتاب أن يدرسها. ولكيلا تغيب عن بالي دروس على هذا المستوى من الأهمية، استوحيت لنفسي من تلك الحوادث التي عشتها مسرحية مجنونة، كنت أتخيل فيها أني أرقد على فراش الموت. آوي إلى غرفتي، وأنام على ظهري وحيدا، مغمض العينين، وأبدأ في تصنع لحظات احتضاري... أستعيد لحظات الرحيل التي قد عشتها... ولحظات انتقالي إلى العالم الآخر التي جربتها... فتبدأ عيناي تغرورقان بالدموع ويلين قلبي وينقلب كياني... وتتوالى في مخيلتي مشاهد من حياة قد عشتها... وأشعر بالأسى والندم على حمقي كل ما شاهدت نفسي أرد على أمي بكلمات نابية لمجرد أنها أبدت لي قلقا علي من عودة متأخرة إلى بيتنا... وأشعر بالشفقة والرثاء على أصدقاء بلغني أن بعضهم اغتابني، فامتلأ صدري عليهم بغضا وضغينة... ويتسع شدقاي بابتسامة ساخرة على خبلي لما تعلقت نفسي بشراء سيارة فاخرة لمجرد أن أحد أصحابي اشتراها، في الوقت الذي لم يكن أبدا في وسعي أن أمتلكها.
وتستمر الأدوار التي لعبتها على مسرح الحياة في الظهور أمامي متلاحقة، فيعيد الاحتضار تصحيح الكثير من التصورات التي تعلمتها من الحياة خطأ... ويعيد الموت ترتيب لائحة أولوياتي في الحياة، فتحتل الأشياء في نفسي ترتيبها السليم، غير متقدمة ولا متأخرة. وينقلني الموت إلى مناطق غائرة في أعماق ذاتي قد أهيل عليها التراب. فأكتشف أشياء جميلة، أصيلة فينا، جاءت معنا من أول يوم أتت فيه بنا الأقدار إلى هذه الدنيا. فأشعر بنفسي أتحول من إنسان متعجرف، أناني، يظن أن الله خلق الدنيا من أجله فقط... إلى طفل بريء، محب... صبي جميل ينضح بالبراءة والحيوية والجمال، لا يعرف الكره سبيلا إلى قلبه. كل همه حب أمه له، وأن يكتشف الأشياء في منزله.
التعليقات
إبقَ على اطلاع