الجنــــرال

كل يوم هو بالنسبة لي فرصة جديدة للحياة. فرصة غالية أقدِّرها وأجِلُّها. أعلم أنها فترة زمنية ثمينة، منحني الله إياها لأستغلها في الكر والفر، والتقدم والمناورة، كي أذلل الصعاب وأواجه التحديات، والمشاكل، التي قد تعترض حياتي في الطريق. الأمر جد لا يقبل الهزل، ويتطلب مني تحضيرات نفسية تتلاءم مع طبيعة مهامي اليومية، واستعدادات خاصة، كما يفعل الطيار في قمرة القيادة قبل الإقلاع. يجب أن يكون كل شيء معدّا مسْبقا بعناية، لتجنب الارتجال والتصرفات العفوية التي قد تفرضها الظروف، خاصة في هذا الزمن الصعب. حيث المواعيد تضبط بالدقيقة والساعة، والالتحاق بالعمل يسجل بواسطة كاميرات المراقبة وأنظمة البصمات.
وقتنا هو رأسمالنا الحقيقي. وهدره هدر لأعمارنا، والتفريط فيه هدم لسعادتنا.
لذلك، تعلمت من التجارب، أن أفرض على نفسي نظاما صارما لا رفق فيه. أنفذه بصبر، وألتزم به بأناة، مهما كانت الظروف. حتى في أشد أوقات حياتي حلكة. الحياة أصبحت قاسية، لا مكان فيها للكسالى، ولا فرصة فيها للمتهاونين. قررت أن أتعامل مع نفسي كما لو كنت جنديا يعمل في صفوف الجيش. استلهمت الفكرة من كتاب شيق ألفه ضابط إنجليزي، يتناول فيه تنظيم الوقت زمن الحرب، وأهمية استغلاله بفعالية. يحدد الكتاب الأساليب الأكثر ذكاء وفعالية لتحقيق أقصى استفادة من الوقت. ورغم أن الكتاب موجه لضباط الجيش على وجه التحديد، إلا أنني تأثرت بأفكاره بشدة وقررت تطبيقها في حياتي المدنية.
نَصَّبْت ضميري جنرالا عليَّ، وتمثَّلت نفسي جنديا في أدنى الصفوف.
بذلك، قضيت على آفة التمرد وأوصدت باب العصيان في وجه نفسي حتى لا أتكاسل، أو أتراخى عن الالتزام. تغيرت حياتي في فترة وجيزة، وأصبحت منذ ذلك الحين أعتبر نفسي جنديا حقيقيا يحارب في أرض المعركة. أتخيل أصبعي ملتصقا بزناد الصّاعِق، مستعدا لإطلاق النار في أية لحظة. بمجرد أن يصدر الجنرال أمرا إلي، علي أن أسارع إلى تنفيذه على أكمل وجه.
في الليل، قبيل لجوئي إلى فراشي، أبادر أولا إلى تنفيذ قائمة من المهام المتكررة أحفظها عن ظهر قلب. أتفقد مؤشر البنزين في سيارتي، وإذا وجدتها فارغة، أنطلق بها على الفور لتزويدها، كي لا أهدر وقتي في النهار بين طوابير الانتظار. ثم أتأكد من إغلاق باب البيت، ومنافذ الغاز، وصنابير المياه. بعد ذلك، أتَحوَّل إلى غرفة الأطفال لأُلقي نظرة على الأولاد، ثم أتفقد سجل حساباتي على جوجل والهاتف. وفي الأخير، أدخل غرفتي وأراجع قائمة مهامي ليوم الغد، وأطفئ الضوء، وأنام.
في الصباح، قبل أذان الفجر بدقائق، أنزلق عن فراشي بثبات كما يفعل الجنود في الثكنات، وأقوم بطيِّ غطائي ووضعه فوق الفراش. أنسحب إلى فناء المنزل، وأشرع في إنجاز سلسلة من التمارين الرياضية الشاقة التي تعلمتها من كتب رجال الدين في التبت. أصلي الفجر على مهل، وأدعو الله بحرارة أن يبارك لي في يومي ذاك. بعد ذلك، ألتحق بالمطبخ لتناول وجبة الفطور مع زوجتي والأولاد، ثم أعود إلى غرفة النوم، لأغير ملابسي وألقي نظرة أخيرة على قائمة أعمالي اليومية. أغادر المنزل وكلي ثقة في الله، بأن يومي سيكون مباركا.
أدفع بالمفتاح في فتحة تدوير المحرك وأشعله، وأقوم بتوصيل فلاش "اليو إس بي" براديو السيارة، وأختار قطعة حماسية من بين مجموعة من القطع الموسيقية الملحمية التي تعكس أجواء الحروب والمعارك. أضغط على دواسة البنزين وأنطلق. في الطريق، أتمثل نفسي كالجندي الساعي إلى ساحة المعركة في خشوع. أقدامي مثبتتان على الدواسات تأهبا لأي ردة فعل، واليدان على المقود تداعبانه كما يداعب الرامي عجلة التصويب في المدفع لتحديد مسار القذيفة. خواطري وأفكاري كلها متأهبة في انتظار أوامر الجنرال الذي قد يتذكر شيئا ما قد نسيه ويعاجلني بمهمة طارئة لم تكن في الحسبان. أشعر بنفسي أتوهج ككرة من النار الملتهبة، وأنا أسبح في لهيب الموسيقى الملحمية داخل السيارة. أمرق كالسهم في الطرقات، وأخترق مواقع الازدحام بدقة تقطع الأنفاس. لا تفصلني عن السيارات المحاذية إلا بضع سنتمترات. حتى أجد نفسي والسيارة قد انتهينا مركونَيْن في مكاننا المألوف، بين الخطين في مرآب الشركة حيث أعمل.
قبل أن ينزلق الباب الزجاجي العريض، الذي يفسح المرور للموظفين عند عبورهم إلى الردهة الأمامية للشركة، أكون قد غيرت أسلحتي. مفتاح الفلاش "اليو إس بي" الذي يرفع قدمي عن سطح الأرض تحفزا، بما يضُخُّ في دماغي من موسيقى، تركته خلفي في السيارة.
أحتاج إلى تغيير عنصر أو عنصرين من استراتيجيتي لتتلاءم مع وضعي الجديد. بعد عدة أمتار، سأمر أمام مكتب المدير الذي أعلم جيدا أنه إن آنس في وجهي ارتياحا، فسيباغتني بملف غامض من ملفات الشركة، يحرق به مادتي الرمادية لعدة ليال ويحرمني من لذة ارتيادي غرفة النوم لعدة أسابيع.
لذا، أبادر قبل الاجتياز إلى سحب الابتسامة الاعتيادية التي أرسمها على وجهي في وجوه الأصدقاء، وأستبدلها بتقطيبة لعينة أعاجله بها قبل أن يعاجلني. أمر مكشرا أمام باب مكتبه كالمار أمام مكتب عميد شرطة بعد ضغط شديد تعرض له، وأضغط زر المرقاة وأصعد.
في الطابق الثالث حيث أعمل، سأمر بعد قليل أمام مكتب صديق قديم لي، جمعني به التضامن والوحدة لدعم بعضنا البعض في أوقات العسر. مرات يقرضني المال، ومرة أقرضه أنا. لكن الآن، الكرة في ملعبي. وعلي أن أعيد القرض. لكن الأحوال تدهورت بالنسبة لي مؤخرا، وليس في مستطاعي رد الدين. أسحب التقطيبة اللعينة التي صفعت بها وجه المدير، وأرسم ابتسامة حزينة على شفتي، وأدخل مكتبه وأصافحه بحرارة، وأمضي إلى مكتبي. بعد أن أستقر على مقعدي وبعد إقلاع الحاسوب، ألقي نظرة متفحصة على عدد من ملفات الشركة. أنتقي واحدا منها يكون ذا مردودية وأشرع في العمل. يتطلب من الشغل دقة عالية في التركيز.
فكميات البضائع هائلة وسعرها غير مستقر ويتطلب تحديد سومة بيعها في الأسواق الوطنية، مهارة فائقة ترتبط بالكثير من المتغيرات التي يتعين دراستها بعناية فائقة قبل عملية التسويق. فأي هفوة ترتكب، لها انعكاساتها على مداخيل الشركة. وكل زلل في الحساب يؤدي إلى نتائج لاحقة. حيث يمكن لقرار واحد يُتخذ عن طريق الخطأ أن يشطب اسم مرتكبه من قوائم العاملين في الشركة. ويمسح عمرا طويلا قضاه يصارع الأرقام في سجلاتها. لهذا السبب بالتحديد، يزداد تمسكي بمبادئ الجندية وأساليبها في تعزيز التركيز والانضباط.
ففي الجيش، يتعلم الجندي كيفية تجنب الأخطاء ببراعة، وحتى إن كان الموت قدره، فإن الوصول إليه لن يكون بالأمر السهل.
عند منتصف النهار، يتوافد الجميع على قاعة الكافتيريا للتزود بالوقود، بغض النظر عن مراتبهم أو انتماءهم أو لون بشرتهم. لا أحد يتغيب عن الحضور.
يتقدم الصدر الأعظم الجميع إلى المائدة، ويتصدر الطاولة الرئيسية الممتدة على طول المساحة المخصصة للأباطرة، حيث أجلس على بعد بضعة كراسي منه. أما الآخرون، فيتوزعون بين المنطقة "ب " والمنطقة "ج"، حيث تتدنى جودة الأطعمة، وتشعر أن صَحْنك يعكس مكانتك، ويشي بموقعك في التسلسل الهرمي للشركة.
لم يكن يروقني هذا التمييز الذي اعتادت إدارة الشركة على ممارسته بين الموظفين.
لماذا هذا الفرز؟ أليس من الأفضل أن يتم توزيع طعام موحد على الجميع، بدلا من هذا الفصل العنصري الذي يخلق نوعا من الضغينة بين العاملين؟
لكن في بعض الأحيان، عندما يكثر اللغط والقيل والقال وفلان فعل وفلانة فعلت بسبب الوشاة والمخبرين الذين زرعتهم إدارة الشركة بين موظفيها أعود وأقول في نفسي:
"لعل للرأسمالية عذرها في التفريق بين الناس. فهم على كل حال ليسوا سواسي في التعامل والسلوك".
وما إن تبدأ أصوات اصطكاك الشوكات بالصحون، ورنين ارتطام المعالق بالأضراس، حتى يتدفق سيل من الخيالات الرهيبة في رأسي، ويتوالى طوفان مخيف من الصور.
تعتريني الحالة الذهنية الشنيعة التي التزمت بها، أعني "حالتي العسكرية". ألتقط بعيني من بين الجموع الحاضرة عدة وجوه أعرف عن أصحابها أنهم وشاة وانتهازيون، لا يعرفون للصدق معنى ولا للشهامة مسلكا. تبدأ صور وجوههم في التمدد أمامي، وفتحات أفواههم تتسع.. وتنتشر.. حتى تبدو في خيالي كأوجه كلاب جرباء. أشهر مسدسي بسرعة البرق، وأطلق رصاصة حارقة في رأس كل واحد منهم في مركز الجبهة، ثم أقرب فوهة المسدس من شفتي وأنفخ الدخان.
ثم تنتقل عيناي إلى جهة المنافقين، الجالسين قبالة الصدر الأعظم، الذين يتسابقون إلى كسب وده بأساليب ملتوية، وتملق سافر مريع. فيتراءون لي مجرد زمرة من الخونة والمتآمرين، المتربصين بالوطن، لا تهمهم إلا مصالحهم ومآربهم الشخصية فحسب.
فتمتد يدي إلى منطقة الحزام وأستل منه قنبلة يدوية حارقة، وأنهض عن مقعدي وأرمي بها إلى جهتهم. فيتصاعد الدخان والأتربة، وتنكشف الرؤية عن مشهد مروع اختلط فيه اللحم الحي بلحم الطعام، ومنظر الأسنان والأضراس متناثرة على الطاولة وعلى الصحون. وقطع الكراسي متناثرة في كل مكان في أرجاء القاعة. فلا رأت خيرا أعين الخونة، ولا أفلح المنافقون من حيث أتوا.
أما الصدر الأعظم. أعني المدير اللعين، ذو البطن المنتفخة المتدلية تحت حزامه، والرأس الصلعاء اللامعة. فلي فيه رأي مختلف. أفضل عرضه على أنظار محكمة عسكرية، لا تعرف الرحمة طريقا لقلوب قضاتها، ليصدروا فيه أحكامهم، ويتم إعدامه شنقا أمام أنظار الموظفين الذين قام بطردهم ظلما بغير وجه حق.
فليحيا العدل. وليبارك الله في عمر الجنرال
التعليقات
إبقَ على اطلاع