لن أرحل الآن

كل شيء حولي في حالة من الفوضى والارتباك.
غرفة نومي تبدو كساحة معركة غادرها الجند قبل قليل. مطبخي مجنون، تُحْيِي فيه الصراصير لياليَ ماجنة. وأدراج مكتبي أشبه بصندوق قمامة، لا شيء فيه يستحق الذكر.
لا شيء منتظم في حياتي. تعثر، وخيبة، ومشاكل، وهموم، وحصائل محبطة..
أنا الآن في نقطة الصفر. الوظيفة التي استصغرتها وقبلتها على مضض لأستمر في البقاء على قيد الحياة، فصلوني عنها. والأنثى التي تزوجتها اعتقادا مني أنها حورية من حوريات البحر، اتضح بعد هنيهة أنها جنية من جنيات الأودية. تزوجتني بغرض الحب بالفتحة وليس من أجل الحب. طلقتها لعلي أستريح من طلقات لسانها القاتلة، وغاراتها اليومية علي، بشتى أنواع القدح والمطالب التي لا تنتهي. ووالدي الضعيف المتداعي، الذي لا يكاد يقيم أَوَدَ إخوتي الستة ليبقوا أحياء بين الناس، لم أعد أستطيع أن أساعده. الأصدقاء.. لم يعودوا أصدقاء. كلهم انفضوا عني وتركوني بمفردي، بعدما سمعوا أنني مثقل بالديون، ورأوا قصر يدي، وعجزي عن شراء حتى كوب قهوة. كيف أخرج من هذا المستنقع الآسن الذي توغلت فيه.
لقد تجاوز غوْصي في الوحل مستوى بوابة فاهي وفتحة خشمي.... أكاد أن أنطمر تحت الغرين..
المباريات للحصول على وظائف، أو أشغال، أو أي نوع من أنواع الاستغلال البشري، انقرضت وتمَّ تشييع جثامينها. والقروض من البنوك من أجل إقامة أي مشروع، أو شكل من أشكال الاستثمار، أو الاستخدام، محظورة على أمثالي من المفلسين. أخبروني في مكاتبهم بأن سجل ائتماني غير نظيف، وبأني لا أمتلك لا ودائع ولا ضمانات ولا عقارات ولا أي شكل من أشكال الثقة من أجل تسديد الدين. فكيف يعقل أن يجازفوا بمنحي أي شكل من أشكال القرض. فيما يخص الأراضي والأملاك والعقارات.. أنا لا أخالفهم الرأي البتة.
فأنا لا أملك مساحة ثقب على أديم الأرض أواري فيه جثمان أُفَيْعَة بشكل عمودي.
أنا مفلس. بائس. محتاج.
ماذا أفعل لأغادر هذا الثقب الدودي الذي أتهاوى في داخله. ماذا أفعل لأوقف سقطتي.
أصرخ، فترتد إلي صرخاتي أصداء لا تنتهي. واهتف، فيرتجع إلي هتافي أنينا يشق القلب ويقذف بي في غيابات الجنون.
أنا لم أعد أعيش في الواقع الفعلي. أنا خارج الزمان وخارج المكان.
تمر علي الساعة، فتتمدد علي أثناء عبورها. تطول، وتتثاقل، وتتمطط، حتى لكأنها يوم بأكمله يمر علي. وأسرع في السير على الطريق. فتمتد الأرض تحت قدمي، وتنتشر، وتتباعد، وأحس بنفسي وكأنني لا أزال في موقعي لا أبرحه. لن يتحرك الزمان بي مهما انتظرت، ولن أصل لأي هدف مهما سعيت.
أنا متجمد في المكان وفي الزمان في انتظار لا شيء. فكري هو الشيء الوحيد الذي لم يتقوض بعد. ماذا يريدون مني؟ أن أشد عنقي إلى حبل وأعود من حيث أتيت. أم اقفز من برج، أو بناية، أو أتعرض لقطار يجهز علي. أهذا ما يريدونه مني؟ هل هذا ما يطمحون إليه؟ مستحيل. غير وارد أن أحقق أحلامهم.
فأنا وإن كنت لا شيء. غير مهم في حساباتهم ولا أعتبر في تقديراتهم. فأنا أعلم يقينا. بأني ثمين... نفيس.. وفاخر.. أمتلك شهادة عالية. وقلبا ذكيا أتأمل به...
فلماذا أزدري نفسي، وأنا أعلم أنها لم تقترف أي جرم. الخطيئة الوحيدة التي قد أكون أتيتها عن غير قصد، ربما تكون قد حدثت يوم نزولي على سطح الأرض. انفتح قماش مظلتي متأخرا، فوقعت في بيتنا من بطن أمي، متلخبطا أصرخ من ألم السقوط. لا أعي بعد، أنني قد وقعت في مصيدة. وعلي أن أقطع الحبال بسني، وأشق طريقي عبر الجدار، لأفر من شبح الفقر، وأتسلل خارجه. وهذا ما كافحت من أجله دون انقطاع. كافحت، وناضلت، واجتهدت، حتى حصلت على شهادة عالية. ومع ذلك، لم أتمكن من تذوق طعم الهدف الذي كنت أسعى إليه. ولم أصل إلى القمم العالية التي كنت أنوي صعودها.
يبدو أن تحقيق الأهداف الكبيرة في هذا الوطن يتطلب جهودا هائلة، تتجاوز حدود الممكن وتقترب من الإمساك بقفى المستحيل.
لماذا الوضع عندنا يختلف عن الأوضاع لدى الآخرين. لماذا نحن دائما في المؤخرة. في ذيل القائمة. في مؤخرة الركب بين الأمم. لماذا تفيض أرضهم بالخيرات والجنات وبالمروج وبالبساتين؟ بينما أرضنا لا تثمر إلا بالشوك، وبالسدر، والقراص، والدفلى. وكأنها تحس بالبشر الذين يعيشون فوق أديمها، فلا ترد على أفعالهم إلا بما يتناسب والفعال. فلا تنبت لهم إلا الشوك لتخزهم بأشواكه، والقراص لتهيجهم بسوائله، والدفلى لتنغص عليهم عيشهم، وتضيف مرارة زائدة إلى حيواتهم التافهة. لعلهم يستفيقون من غفلتهم، وينهضون من كبوتهم التي طال مكوثهم فيها. فيدركون أن الأرض ليست مجرد مكان للعيش، بل هي كائن حي. يرى، ويسمع، ويدرك، ويحس، ويشعر بما يشعرون. لماذا الآخرون يستمتعون بصيد أسماكهم في أنهرهم وأبحرهم. بينما نحن نعيش في مأساة. حيث تصبح الأسماك هي من تصطاد أطفالنا، وشبابنا، ورجالنا، ونساءنا من مختلف الأعمار؟ يغامرون بحياتهم بإلقاء أنفسهم في البحر، هربا من جحيم الحياة على هذه الرقعة، باحثين عن بصيص أمل في مكان آخر. هذه الأرواح التي قضت في أعماق البحر. هل هي مجرد أرقام تظهر في الواجهات بين الحين والآخر، أم هي قصص معاناة وأحلام محطمة، غرقت وهي تبحث عن فرصة للعيش بكرامة ورأس مرفوع.
لماذا نحن هكذا. متخلفون. متسولون. حزانى. نستورد كل شيء. نسأل الآخرين حياتنا.. من يضع العربات أمام الأحصنة؟ من يدفع بالعصي في العجلات؟
أشعر بالغضب. بثورة بركان تتصاعد في داخلي. بالنار وبالحميم وبالصهارة توشك أن تُدوِّي في باطني. دمي يجري في عروقي حارقا، تكاد تتشظى منه الأوعية. وقلبي كله صارا دما، فكيف للدم ان يضُخَّ دما؟ أنا ثقب أسود، يمتص كل القوى من حوله. يجرف كل شيء. أوشك أن أنفجر. أن أطلق صرخة كبرى. تهتز لها الأرض، وتندك لها الجبال والأودية. ويتساقط الغيم جمرا يحرق كل شيء. ينسف كل شيء. لتستيقظ الأرض والأناسي وكل الكائنات. وتختلط الأوراق مرة ثانية، وتتوازن الأرقام وتتعادل، وتصفو من جديد.
لن أشكو جراحي لأحد. لن أذرف دمعة واحدة. لن أرمش، لن أتأوه، لن يصدر عني أنين. سأظل صامدا مثل الجبل في وجه العواصف. لن أنحني، لن أكْبُوَ، سأزحف كالأسد. سأسعى، سأترك خلفي غبارا، ستخرج الكلمات من فمي شعرا ونارا تهتز لها الأفئدة..
لكني... لا أريد أن أرحل الآن. لأن لدي التزامات أود الوفاء بها قبل الرحيل. أريد أن أعرج قبل الوداع على مقصورة التاريخ، ليسجل عني أنني كنت في يوم من الأيام.. أحيا هنا. مدركا... متيقظا... لا ميتا... قبل أن أعبر إلى الجانب الآخر عبر البوابة الكبرى، لأعانق المجد والسعادة الأبدية.
التعليقات
إبقَ على اطلاع