تأملات في الحياة

أشعر بالضيق والاختناق. أحس بنفسي كما لو أنني مطمور تحت ركام هائل من الأتربة والنفايات. كصرصور كسيح مقلوب على ظهره، في جوف بالوعة من بواليع الصرف الصحي، يتخبط بيديه ورجليه يطلب النجاة لنفسه، إلا انه مشلول. مقعد، ممنوع من الحركة. أينما توليت بوجهيي أتلقى الصفع واللطم. الصراخ في كل مكان. البكاء والعويل والنحيب يصخ آذاني. فعندما أجلس في مقهى للترويح عن نفسي. تروعني أحاديث الناس وحواراتهم. فالجميع يتحدث عن ارتفاع أثمنة البطاطس، والزيت، والبصل. وفحش فواتير الماء، والكهرباء، والمستشفى. وتكلفة العيد، ورسوم المدارس، وتذاكر النقل، والسفر. وحينما أحمل سلتي وأتجه إلى السوق. يصيبني الوجع. تتملكني حالة من ا لأسى والحزن، عندما ألمح هالة من الكرب والمعاناة مرسومة على وجوه الناس.
نساء عاجزات واهنات، يتنقلن بين الاركمة بأوعية فارغة يكدن يتسولن المؤن من البائعين. واحدة تجادل البائع في سومة حبَّتَي طماطم ذابلتين اسْتلَّتَهُما من تحت الركام لتُسكِت بهما الم الجوع في بطون أطفالها الصغار الذين لم يشعروا بالشبع منذ زمن. وأخرى واقفة تنتظر لساعات أن تَذْوِيَ الخضر وتجف لعل الأسعار تستحيي وتتدنّى، وثالثة تطلب الصدقة. مشاهد تحزُّ في النفس وتجعلني أتمنى ألا يحين موعد زيارتي للسوق لأتبضع، أو أن ينوب عني أحدهم في القيام بهذه المهمة.
في الحافلات وفي الشوارع والمستشفيات، أرصد أفواها مائلة إلى الأسفل، تعطي انطباعا بالأسى والبؤس لدى أصحابها. وعيونا غائمة فاقدة للبريق والأمل، تعكس شعورا بالثقل والضيق والكآبة.
حيثما حللت أتلقى الصفع واللطم على القفى. حتى في الأوساط الغنية والمتوسطة، أرصد الضجر والوجوم وعدم الارتياح. كأن خطْبا ما أصاب الكل.. أشعر بالناس وكأنهم مزعزعين، مضطربين، يتواثبون فوق الجمر، أو على ظهر مقلاة حارقة تغلي بفعل الزيت. ماذا يحصل؟ ماذا هناك؟
في البادية وفي كنفِ الطبيعة. عندما أخلو بنفسي لبضع ساعات، تتوالى في رأسي الأجوبة.. تتردد الرّدود في ذهني سريعا وتتوارد التفسيرات. على قمم الجبال عندما أُسرِّح بصري بعيدا، أتملّى الآفاق والسفوح والتلال، أدرك عمق الهوة السحيقة التي انتهت إليها الحضارة الإنسانية في هذا العصر. وأتعجب من غباء هذا الإنسان. أتعجب من غروره ومن سذاجته ومن كبرياءه. ومن المكانة السامقة التي لا تنبغي إلا للإله التي شغلها، ظنا منه أنه إلاه. بينما هو لا يزال في الواقع يرْزحُ في أغلال جهله، ويتجرّع فظاعة بربريَّته، لم يبتعد قيد أنملة عن عصره الحجري الأول، ولا عن العصور المعدنية التي تبعته.
ماذا يظن هذا الإنسان نفسه قد صنع؟ أي تقدم أحرزه على مُنحَنى تطوره؟
استبدل مِخلبه الذي كان يصطاد به ببنادق آلية، ورشاشات ثقيلة، وصار يوجهها لزميله البشري.. وأسنانه التي كان يقطع بها اللحم، اسْتَعاض عنها بالقنابل اليدوية، والقنابل العنقودية والانشطارية ليمزق بها لحم أخيه الإنسان. وعندما حاكى الطبيعة استنسخ النسور، ليصنع منها طائرات مقاتلة ومروحيات هجومية. والنار التي كان يضرمها بحكِّ حجرين، صار يفجرها بِصدْمِ ذرتين. نزل إلى أعماق الذرة وسلب طاقتها، فصارت ا لأرض تهتز تحت قدميه، والجبال ترتجف، وماء البحر يرغي ويبيض، ويسلق الأسماك في أعماقه على بعد مئات الأميال.
أي تقدم هذا الذي يفتخر بإنجازه هذا الأحمق؟ وأي فلسفة تبناها فالتفت عليه فأهلكته؟ ما باله يرتكس في الحمأ ة الوبيئة، ويفضل المشي مقلوبا، رأسه إلى الأسفل، وقدميه للأعلى.
الأطباء يُجرِّبون ويَدْرُسون ويجزِمون أن الخمرة مُهلكة.. وينبري الانتهازيون ومصاصو الدماء فيدسّون السم في العسل ويَقْلِبون الصورة للناس، في الأفلام والمسلسلات ووسائل الإعلام، حتى غدونا نرى الناس سكارى في كل مكان.. العلماء يفكرون، ويتدبرون، ويعصرون أدمغتهم، ليتوصلوا إلى حقيقة نظرية الانفجار العظيم التي تستلزم عقلا فكرة وجود الخالق. وتأتي ثُلَّة من مدفوعي الأجر ويلوون عنق الحقيقة بابتكارهم لتخمينات وتكهنات بلهاء لا موطن فيها لعقل يفكر، ولا بياض فيها لقلم يحل معادلات.. كل هذ ا لِيلبسوا على الناس سبل الحقيقة. ويدفعوا بهم إلى ميادين العهر، والعربدة، والاستهلاك. أي فلسفة وأي نظام اقتصادي اعتمدته لتنعم بالعيش الرغيد.
الرأسمالية؟
أي اقتصاد حر هذا الذي يميل الصحن إلى جهة ثلة قليلة من الناس، ليتدفق المرق لصالحهم ويغرق باقي الأرض في الفقر والجوع والعطش.
فتبّاً لها من فلسفة وتبا لها من علوم.. وألف تبٍّ وتبٍّ لهذه الرأسمالية المتوحشة، التي أتت على كل شيء.
فيا ليث الناس ينهضون من نومهم. يا ليثهم يهُبون لاسترجاع حقوقهم. ويبصرون الأشياء على حقيقتها، لا كما أرادوا لهم أن يفهمون.
لكن والله، سيأتي يوم تستفيق فيه البشرية من غفلتها وتعود فيه إلى الصواب. سيأتي يوم تتخلص فيه من نظرتها المهترئة للطبيعة، وللأشياء، وتعلم أن الطبيعة لا يمكن ان تصنع أي شيء. إن هي إلا ذرات مفككة. لولا أن هناك يد خفية، تعمل خلف الشاشة لتؤلف بينها. تصمم، وتبدع، وتتأنق، لتيسر لنا العيش الرغيد، والسعادة الحقيقية. ريثما يحين وقت العودة، لنرجع إلى أصلنا.. إلى موطننا الأول. حيث ظهرنا للوجود أول مرة.
التعليقات
إبقَ على اطلاع