HAMASAT

HAMASAT

البحث عن السعادة

 موضوع السعادة أراق الكثير من المداد، وأثار العديد من النقاشات بين الفلاسفة والمفكرين عبر التاريخ. إذ لا شك أن مفهومها متباين وشديد الاختلاف، تختلف تعريفاته من شخص لآخر ومن ثقافة لأخرى. فبعض الفلاسفة يرون أن السعادة تكمن في تحقيق الأهداف الشخصية والعمل بجد لتحقيقها، بينما يرى آخرون أن السعادة تأتي من الرضا الداخلي والقبول بما هو موجود. كما أن هناك من يعتقد أن السعادة تتجلى في العلاقات الإنسانية الإيجابية والعيش في بيئة محبة وداعمة. ويبدو أن المال والصحة هما من العوامل الأساسية التي يربطها الكثير من الناس بالسعادة. فالصحة الجيدة تمنح الإنسان القدرة على الاستمتاع بالحياة والقيام بالأنشطة اليومية دون معوقات، بينما يوفر المال الوسائل لتحقيق الأمان المالي، وتلبية الاحتياجات والرغبات. 

ولقد لعبت في عصرنا الحالي أقلام الروائيين والشعراء وعدسات تصوير كبرى شركات السينما العالمية ولوحات الرسم التي أبدعها أكابر الفنانين وآلات العزف الموسيقية وحناجر الممثلين على خشبات المسارح دورا هائلا في ترسيخ هذا المفهوم في أذهان جل الناس.

فتجد معظم القصص والروايات تحكي للقارئ بأسلوب ماكر فيه الكثير من الدهاء والحنكة قصة حب خيالية نشأت بين رجل وامرأة في ريعان شبابهما، ثم تدور الأحداث وتلتوي بهما لتنتهي تحت أعين القارئ في الصفحة الأخيرة من الكتاب وقد تزوجا وأصبحا سعيدين، يرقصان من الفرح والغبطة وسط رهط عظيم من أكابر القوم من أغنياء بلدتهما. أما المشاهد النهائية لأفلام هوليود أو بوليود أو غيرهما من شركات السينما العالمية، فغالبا ما تختتم بمشاهد تجعل الدموع تنهمر فرحا من أعين المتفرجين. فسواء كان الفيلم من نوع الدراما يركز على سرد قصة مثيرة للعواطف أو من نوع الكوميديا يهدف إلى إثارة الضحك والفكاهة أو الخيال العلمي يستند على العلم والتكنولوجيا، أو من صنف الحركة والمغامرة يحتوي على مشاهد حماسية تتضمن مغامرات ومطاردات. فكلها تعمل على انتشال المتفرج من أجواء ملله، ورتابة عيشه، ودغدغة عواطفه، لخلق أجواء من الفرح والسعادة الوهمية تجعله ينفصل عن واقعه ويشعر بنوع من الطمأنينة والانشراح ولو إلى حين. وحتى أفلام الرعب التي تستهدف إثارة الخوف والهلع في نفوس الناس أو أفلام الجرائم التي تركز على الجريمة والتحقيقات البوليسية فتجد جل نهاياتها تختتم بمشاهد البطل والبطلة يتعانقان فوق كومة هائلة من أوراق الدولار الأمريكي وفي قبضة أحدهما زجاجة من نبيذ الشمبانيا يكرعانها فرحة بما سطيا عليه من أكياس النقود. وبذلك تحصد كبرى شركات السينما العالمية مكاسب مهولة، ويسقط المتفرج في فخ الإدمان ويستمر في مشاهدة المزيد من الأفلام ليعود ليحيى نفس فصول حياته البئيسة والروتينية التي تعود أن يكابدها كل يوم.

قليل من الناس من المستيقظين هم من يعلم عمليا أن لا وجود صراحة لشيء اسمه السعادة. وكيف يؤمن شخص طبيعي بوجود شيء اسمه السعادة وهو يعلم أن لا شيء آمن في هذه الحياة.

هبوط حاد في الدورة الدموية، أو انسداد شريان دقيق تحت الجمجمة، أو سكتة قلبية مفاجئة، أو حادث سيارة، أو غيره من الحوادث، كفيل بإهالة التراب في غمضة عين على إنسان وإن كان يعيش ذروة سعادته. النسيان والسهو والغفلة وعدم الزج بالفكر في مستنقعات الخواطر والتأملات الفاسدة هي فقط من يسمح للنفس باتخاذ وضعيات مؤقتة تشعر فيها وكأنها سعيدة بالفعل. وما هي بسعيدة. إن هي إلا أحاسيس مؤقتة رهينة بالوقت وبالظروف وبالأحداث التي قد تداهم في أية لحظة فتنقلب الحالة النفسية رأسا على عقب، وتتبخر السعادة ويذهب الفرح ويحل محلهما الهم والغم والكآبة. هناك فقط حالة تكون عليها النفس حين تصل مرتبة شامخة من الوعي تعرف عند الحكماء بما يسمى بالطمأنينة أو السكينة أو الهدوء. لا يهم الاسم. ولكي نحافظ على هذه الحالة قائمة في نفوسنا، يجب أن نبني فوقها أسقفا واقية لنحمي سطح بحيرتها من الهجمات والضربات القادمة إليها من الخارج. فتظل ساكنة، مطمئنة، وجهها هادئ وناعم لا يتخلله موج ولا اختلال. أما الأسقف الواقية فيجب أن تكون قوية وسميكة، مكونة من شتى خلائط من المعارف والحكم والعلوم، مصممة لتصد عنا ضربات الحزن والغضب والقلق والإحباط والشعور بالذنب، وتحمينا من الخوف من أي شيء في هذه الحياة. من الخوف من الفقر ومن المستقبل والوحدة ومن التغيير وعلى الخصوص الخوف من الموت. ولكي نصل إلى هذه الحالة الشامخة من الوعي يجب علينا أولا أن نستيقظ. أن نتحرر من الألفة والاعتياد والتعلق بالأشياء ونبقي أبواب قلوبنا مشرعة على كل ما يشاركنا الوجود في هذا المهرجان الإلاهي المبهر الذي نحيا في داخله.

يجب أن تكون لنا القدرة على استقبال ذلك الوميض الرباني من الكمات النورانية القادمة إلى قلوبنا من هناك ونحن نتأ مل في أي شيء قد نصادفه في طريقنا. فكل شيء جميل في هذه الحياة وكل ما في الكون ينضح بالجمال.

شفتي أم تقبل طفلها. أو طلقات بنادق تحرر أرضها أو حتى قشة تبن ملقاة على جنب الطريق أو أقدام خنافس تدحرج بعرها على حافة صخرة هي مواضيع شيقة ومؤهلة ومؤاتيه لأن تشيع في أنفسنا أجواء لذيذة من الدهشة والانشراح والإحساس بيد الكمال والذكاء والجمال تعمل خفية تحت السطح. فتتحول القشة الصغيرة المهملة في نظرنا إلى شيء جليل ورفيع ذو قيمة وذو شأن بفعل ما نعلمه عن القشة، وما تحتوي عليه من خلايا، وما فيها من معامل ومصانع يخضوريه وميتوكوندريا وشبكات اند وبلازمية وحمض نووي ريوبوسمات وأجهزة ذكية يدور لها الرأس من فرط الدقة. فتخشع لذلك أنفسنا وتستكين وتمتلئ بالحب والامتنان والانشراح.

وتدرك أن خلف المظاهر يد ذكية وحنون تعمل في خفاء خلف الشاشة وأن لا مجال للخوف على مستقبل أو فشل في مشروع أو فقدان لصحة أو موت. فكل شيء مقدر بعناية فائقة وكل شيء خاضع للسيطرة.

وبذلك نرتاح ونطمئن وتهدأ أنفسنا وتستقر ويحافظ سطح البحيرة على ثباته وسكونه وتوازنه. هذا هو التصور الصحيح الذي يضمن لنا الاستقرار الداخلي، ويمدنا برصيد هائل من السكينة والطمأنينة والابتهاج لأننا أصبحنا نعلم أنا لسنا وحدنا في هذا الوجود، وأن هناك عينا تراقبنا وتحفظنا وترعانا. فلِمَ إذن الخوف والقلق؟ ولم الحزن والكآبة ما دمنا نحظى بكل هذه العناية.

About Me
Abderrahmane Hassani

I'm a traveler, wanderer, explorer, and adventurer of life's great journey.

About Me
Abderrahmane Hassani

I'm a traveler, wanderer, explorer, and adventurer of life's great journey.

About Me
Abderrahmane Hassani

I'm a traveler, wanderer, explorer, and adventurer of life's great journey.

التعليقات

إبقَ على اطلاع

مقالات قد تنال إعجابك

Apr 29, 2025

...كان والدي طرازا من الرجال ليس كسائر الرجال. أحب الأدب لدرجة أنه قرر ذات مرة أن يشعل ثورة في البيت، ويرغمنا جميعا على التحدث باللغة العربية

Apr 29, 2025

...كان والدي طرازا من الرجال ليس كسائر الرجال. أحب الأدب لدرجة أنه قرر ذات مرة أن يشعل ثورة في البيت، ويرغمنا جميعا على التحدث باللغة العربية

Apr 29, 2025

...كان والدي طرازا من الرجال ليس كسائر الرجال. أحب الأدب لدرجة أنه قرر ذات مرة أن يشعل ثورة في البيت، ويرغمنا جميعا على التحدث باللغة العربية

Apr 29, 2025

...الضوضاء والصراخ و "خذ وهات" تملأ الأجواء في كل مكان. الناس يتدافعون في الأسواق، وفي محطات القطار، والمترو، وفي الملاعب الرياضية

Apr 29, 2025

...الضوضاء والصراخ و "خذ وهات" تملأ الأجواء في كل مكان. الناس يتدافعون في الأسواق، وفي محطات القطار، والمترو، وفي الملاعب الرياضية

Apr 29, 2025

...الضوضاء والصراخ و "خذ وهات" تملأ الأجواء في كل مكان. الناس يتدافعون في الأسواق، وفي محطات القطار، والمترو، وفي الملاعب الرياضية

Apr 29, 2025

...بدا متوترا في جلسته، وهو يعيد للمرة الثالثة مراجعة أوراقه، على ضوء أشعة الشمس المتسللة من النافذة التي كان يجلس تحتها، في الحجرة الشرقية لبيتهم القديم الواقع في أقصى الجهة الغربية للقرية حيث كبر وترعرع

Apr 29, 2025

...بدا متوترا في جلسته، وهو يعيد للمرة الثالثة مراجعة أوراقه، على ضوء أشعة الشمس المتسللة من النافذة التي كان يجلس تحتها، في الحجرة الشرقية لبيتهم القديم الواقع في أقصى الجهة الغربية للقرية حيث كبر وترعرع

Apr 29, 2025

...بدا متوترا في جلسته، وهو يعيد للمرة الثالثة مراجعة أوراقه، على ضوء أشعة الشمس المتسللة من النافذة التي كان يجلس تحتها، في الحجرة الشرقية لبيتهم القديم الواقع في أقصى الجهة الغربية للقرية حيث كبر وترعرع

Apr 29, 2025

.عندما سئل أينشتاين عن موهبته، أجاب ببساطة

Apr 29, 2025

.عندما سئل أينشتاين عن موهبته، أجاب ببساطة

Apr 29, 2025

.عندما سئل أينشتاين عن موهبته، أجاب ببساطة

اشترك في النشرة البريدية

تصلك مقالاتنا مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

© 2025 Hamasat. Créer par MonkeyDzign.

اشترك في النشرة البريدية

تصلك مقالاتنا مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

© 2025 Hamasat. Créer par MonkeyDzign.

اشترك في النشرة البريدية

تصلك مقالاتنا مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

© 2025 Hamasat. Créer par MonkeyDzign.