أنا لا أعرف ماذا أريد

تأتي علي بعض الأوقات، أشعر فيها أني لست راض عن نفسي تمام الرضى. أشعر بالحزن. وينأى عني حماسي. وأدخل في حالة من الخمول الصامت، تمتد أحيانا لأسابيع طويلة. تكرر إحساسي بهذا الشعور مرات ومرات في مراحل عدة من حياتي، حتى ألفته وصرت أسميه نفق الظل. كناية عن النفق حينما يعبره القطار في سفح الجبل فتنقطع الرؤية عن الركاب فجأة لفترة محددة من الزمن، ويختفي عن أعينهم ضياء النهار، ومشهد منحنى الأفق البعيد حيث تعانق زرقة السماء الداكنة امتدادات الأرض المترامية، وما يعكسه صدى هدير المحرك وضربات العجلات على القضبان من رهبة لدى الركاب. حينها يسود النفوس شعور عميق بالتوتر وعدم الارتياح، كأنها تنتظر شيئا ما سيئا سيحدث. إلى أن يبدأ ضوء النهار في الانبلاج مجددا، ويتحرر القطار من قبضة الظلام، وتستعيد النفوس انعتاقها وتحررها الذي كانت عليه قبل العبور. عندما أكون في تلك الحالة لا يوجد شيء في استطاعته أن يزحزح شيئا فيما أكون عليه. يلازمني صمتي، والخمول، وشعور غامض بعدم الرضى عن نفسي تمام الرضى.. إلى أن ينفلق الفجر، ويتبدد الظلام، ويعود الضياء ليتوهج في داخلي من جديد.
أعلم أني لا أعاني من أي شيء. فصحتي جيدة وعلاقتي مع الزملاء على ما يرام ومع المدرسين والأهل حسنة جدا... في البيت أمي هي الوحيدة التي تشعر أنني لست تماما. ولآكنها تتجاهلني وتتظاهر أنها لم تلاحظ أي شيء.. تتغاضى إلى أن أطل من النفق، وأستعيد عافيتي. وفي المدرسة أستاذ الرياضيات يداهمني بين الحين والآخر على غير عادته بسؤال مفاجئ يوجهه الي، ليستيقن من عدم غيابي عن القسم. وكأنه يرصد في سلوكي خللا ما ينبئه أن هناك خطبا أعاني منه. أظن أنه افتقد عندي غياب حس الدعابة، بسبب اختراعي للعديد من الأسماء الغريبة التي كنت أطلقها على بعض الكائنات الرياضية في القسم. فالدالة الأسية كنت أطلق عليها اسم دالة البرق، لكونها تنطلق بسرعة فائقة نحو السماء. ودالة اللوغاريتم كنت أسميها الدالة الحلزونية، لأنها تتسلق ببطء وتدور مثل الحلزون. والقيمة المطلقة كنت أسميها زنزانة الأعداد، حيث يتطهرون من سلبيتهم بين الخطين ليتحولوا إلى أعداد إيجابية. ومنحنيات الدوال هي حبال تمتد بين السماء والأرض، ويجب دائما التأكد من سلامتها قبل الارتقاء عليها أو قبل النزول خشية الانفلات من الثقوب حيث تكون غير متصلة.
دوري في الدعابة كان محوريا في القسم لدرجة أن غيابها يعني غيابي، أو مرضي على الأقل، ولكني لست مريضا. فصحتي جيدة ودقات قلبي منتظمة وضغطي سليم. وعقلي يصل إلى مستويات من التحليل والفهم يعجز أن يصل إلى مثلها في الحالات التي أكون فيها سليما. وكأنه أصبح ينهل بالإضافة إلى حصته، حصة طاقتي الروحية التي افتقدها.
ماذا دهاني؟ في بعض الأحيان يخيل إلي أن شيئا ما ينقصني. وأنني لو حصلت عليه سأكون رائعا، في قمة النشوة والسعادة. لكن ما هو؟ ماذا ينقصني؟ ماذا أريد؟
لست أدري. أنا لا أعرف ماذا أريد. أشعر وأحس أنني أريد شيئا. لكنني لا أعرف ماذا أريد.
أتراه العكس؟ شيء زائد عندي علي أن أتخلص منه. أي شيء؟ أتخلص من ماذا؟ أنا لا أعرف ما لا أريد. لا اعرف ماذا أريد، ولا أعرف ما لا أريد. لا أعرف فحسب.
سأظل أواصل الطواف حول الدائرة حتى أعرف.. سأواصل الصعود في السلالم لأجد باب السطح مغلقا والنزول بعد ذلك لأصطدم بباب البيت، ثم الصعود مرة ثانية ثم النزول. صعود ثم نزول. صعود...نزول. حتى أتعب. حتى تنقدح الشرارة في ذهني وأعرف ماذا أريد. أتراه يأتي علي يوم أعرف فيه ماذا أريد؟ والناس أتراهم يعرفون؟ لست أدري... كل ما أعرفه أنني لحد الآن.. كلما أردت شيئا.. أعرف بعد حصولي عليه.. أنه لم يكن الشيء الذي أريد.
التعليقات
إبقَ على اطلاع