HAMASAT

HAMASAT

Apr 29, 2025

الكركدن

كانت دراستي في الباكالوريا من ذلك الصنف الذي يتعذر على الإنسان أن ينساه. لم تكن سنة سهلة، بسيطة، خرقاء تمر أيامها على رأس الطالب فلا تخلف فيه انطباعا. كما تمر عليك في البحر بضع ساعات، تمضيها في اللهو والمرح، فلا تحس أنهن مررْن. بل كانت أيامها شديدة قاسية تصيب الطالب أحيانا بالتعب فتربكه، وبالفشل فتقعده. لولا أن التلميذ يعمل بجد، ويواصل كفاحه ونضاله كونه يعلم أن يوم الفرحة الكبرى آت لا ريب فيه، ويوم الفوز الساحق قادم لا محالة، إن هو تفوق ليتصدر اسمه لائحة الأوائل في الناجحين.

 

كنا في الفصل عشرة تلاميذ. سبعة ذكور، وثلاث إناث. وقد كنا قبل ذلك بأيام فقط أكثر من عشرين تلميذا. انفض أكثر من نصفنا إلى باقي الشعب رهبة من مادتي الجبر والديناميكا في الفيزياء اللتين تضرر بسببهما الكثير من الطلاب. كون معامليهما في التنقيط مرتفعين، وأي تذبذب فيهما أو تلكؤ في الامتحان سيتسبب في شطب اسم صاحبه من لائحة الأوائل، وبالتالي يحرمه من رفعة الانضمام إلى رحاب إحدى المدارس الكبرى للهندسة. زد على ذلك ازدحام سلة المواد بالدروس، وما احتوى عليه بعض منها من أجزاء صعبة يتطلب التمكن منها لدى الطالب أناة وصبرا، لا يسمح به ضيق الوقت خلال التحضير. لذا كان على الأستاذ عبء ثقيل في تدريب التلميذ على هضم محتوياتها، ودور كبير في الخروج به من مطبّاتها، لعله يوم الامتحان يكون قادرا أن يرمي هدفه بدقة، ويصيب مركزه بإتقان. ولعل من سخريات القدر.. أو من بركاته ربما، أن قَيّضَ لنا مدرسا في الفيزياء التحق بمدرستنا تلك السنة لأول مرة. لم يسبق له أن درس في أقسامها مطلقا، ولا في رأس أحدنا عنه خبر. وكان يوم دخوله علينا في الفصل أول مرة يوما لا ينسى، لغرابة ما مر علينا فيه من مجريات. فتح علينا الباب فجأة دفعة واحدة، ودخل علينا الفصل" كركدن" هائل صرخت البنات دهشة من رؤيته. تمزق الذكور قهقهة حتى انقطعت أنفاسنا من الضحك، وتمزقنا وخشينا على أنفسنا من أن يكون أحدنا أصابه مكروه.. رأس مفلطحة كالصحن، مشدودة على هيكل عظيم كالبرميل، تقدم ببطء يتهادى في مشيته كالدب إلى أن انتهى إلى السبورة، ووقف عندها يوز ع علينا نظرات متوعدة. كأنه كان يحاول ان يخرسنا بها. ولكن هيهات.. الفوضى كانت أكبر من أن يكبحها أسد، والضحك منهمر من أن يقدر على ردعه أحد. المشهد فوق كل التوقعات ولا حيلة في استعادة الوضع إلى ما كان عليه إلا بشيء من التأني والصبر كان عليه أن يتحلى بهما إلى أن تخمد موجة الضحك، وتتقلص سعتها وتعود الأمور إلى ما كانت عليه. ولما مال الفصل إلى الهدوء، وأخذ الضحك في الانحسار شيئا فشيئا. تكلم أخيرا وقال ": اسمي الأستاذ محفوظ وأنا مدرسكم في الفيزياء، الوقت لا يسمح لنا بالضحك ويتعين علينا أن نشرع على الفور في دراسة أول فصل لنا في ديناميكا حركة الأجسام. كان بودي أن أشارككم ضحككم ولكني لا أعلم إن كنتم تستحقون ذلك أم لا. فإن كنتم تستأهلون فبها ونعمت. وإن كنتم دِلاءً مخْرومة كَدِلاءِ الحمام، فسترون مني ما لم يخطر لأحدكم على بال، وأندمكم على اختيار شعبة الرياضيات "وشرع مباشرة في بسط أول درس له في الفيزياء. وما كادت تمر بضع دقائق، حتى استولى على الفصل صمت عميق، وسكون تام، نجم عن المهارات الفائقة التي أبان عليها في تقديم الدرس. كان يتكلم بفمه وبطنه ويديه ورجليه وهو يشرح.. ينتقل بخفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار للسبورة، ويكتب بسرعة بخط جميل، ويثب وينط، كأن لا وزن له. تتراقص الكلمات في فمه، كما تتراقص الغزلان في الروابي، وتتوالى متسارعة ومتباطئة على حسب السياق، فيتجلى على أثرها المعنى جليا في أذهاننا، واضحا لا يحتاج إلى تفسير، أو إلى مزيد من التعقيب. ولما انتهي من الدرس دنوْنا منه وتحلَّقنا حوله كالفَراش نسلم عليه، ونبتسم له، ونهش له في وجهه، وكأن لسان حالنا كان يقول له "معذرة يا أستاذ على ما بدر منا. لم نكن نحسبك أسدا في مادتك، على كل هذا القدر من الحنكة والبراعة "ومنذ ذلك اليوم نشأت بيننا وبينه صلة متينة كان يتخللها تارة أجواء من الوقار والجد، وتارة أخرى طقوس من الضحك والمجون. حسب الوقت، وتبعا للظروف. لم يكن يهدر أبدا لحظة من وقتنا فيما لا جدوى فيه. ولم يكن يتردد في حجزنا الساعة والساعتين خارج الحصص النظامية، ليزيد ملأنا أكثر فأكثر، ويضاعف فهمنا أعمق فأعمق. كل هذا من غير أن يفسد للود قضية ولا يضيع للمهابة جانبا، مع الحفاظ على جو من الدعابة والمزاح داخل الفصل، يثيره بيننا بين الحين والآخر، ليجلب انتباهنا من جهة ويرسل لنا من جهة أخرى برقيات خفية مفادها أنه غير مكترث بلقب "الكركدن " الذي كنا نطلقه عليه، ولا مبالٍ بالقصص والمرْوِيات التي كنا نحكيها عنه في كل مكان. 


حدث في يوم من الأيام لست مستعدا لأن أنساه ما حييت، أن تأخر عن الحضور إلى حصة كانت لنا معه، بسبب اجتماع مع المدير. وعندما وصل. وجدنا في حالة يرثى لها من العربدة والهيجان. وجدنا نصفق ونغني ونضرب الطاولات بالمساطر والأقلام، وكأننا في حفلة موسيقية. كان أحد المشاغبين قد أنشأ نشيدا غريبا عنه ونهض إلى السبورة وشرع ينشده بصوت مرتفع وهو يحرض بقية الطلبة على ترديده وراءه:

جن الكركدن جن.. ولما جن دن 

دن ددن دن دن.. دن ددن دن دن  

دم الكركدن دم…ولما دم هم

هم ههم هم هم .... هم ههم هم هم 

كان المشهد مضحكاً للغاية، وكأننا في عرض كوميدي. وعندما دخل الأستاذ، لم يستطع إلا أن يبتسم، وانضم إلينا في هذا الجنون المرح، ينشد معنا نفس الكلمات التي ظللنا نرددها لأكثر من عشر دقائق قبل عودته. يبدو أنه كان يقف خلف الباب يستمع إلينا، حتى حفظ الأبيات عن ظهر قلب. وبعد أن رددنا النشيد معه مرة واحدة، أشار إلينا بيديه لنتوقف. عم الصمت في الفصل، وبدأ يراقبنا بعينيه الصغيرتين اللتين تشبهان خرزات المسبحة. ثم، بصوت هادئ يحمل في طياته سخرية واستهزاء، قال: 

"أخرجوا أوراقكم، لديكم الآن امتحان لمدة ساعتين في درس الموجات. دعونا نرى ما في جعبتكم؟"   

وفي صبيحة اليوم التالي، عاد إلينا برد مضاعف. بدأ يتجول بيننا وعيناه الماكرتان تتفحصان وجوهنا في سخرية واستهزاء وقال لنا:

" كنت أظن أن الحيوانات جميعها تتقن السباحة مثل الكركدن؟ …لكن يبدو أنني كنت مخطئا. لقد خاب ظني فيكم." 

ثم بدأ يتنقل بين الطاولات، وكل ما أمسك بورقة، أعلن نتيجتها بصوت مرتفع، مُسمِّيا صاحبها باسم حيوان. فلم يترك بقرة ولا معزة ولا حمارا ولا كلبا ولا ضبعا إلا وسمى به أحدنا حتى انتهى ونحن غارقون في الخجل مطأطئي الرؤوس نحو الأرض. كانت أعلى نقطة في القسم هي خمسة من عشرين تحصل عليها من أطلق عليه لقب ابن آوى. لقننا درسا في الأدب لن ننساه أبدا. ومن ذلك الحين، بدأنا نتحاشى أن نرتكب أي خطأ أمامه. فللضحك حدود، وإذا تجاوزناها، فمن حقه أن يلجأ لأي أسلوب من أساليب الردع ليوقفنا عند حدنا. النقاط كانت تحسب في المراقبة المستمرة. ولها أثر على المجموع العام. وهذا لا يعني أنه لم يكن يحب الضحك أو كان معقدا من جهته، بل على العكس، كان يستمتع بالضحك معنا بين الحين والآخر، ولكن فقط في إطار الدرس. مازلت أتذكر مرة ونحن ندرس درس كمية الحركة، رآني بالغت في الحديث مع صديقي أكثر مما يجب، وكأنه أراد أن يعاتبني، فأنهضني إلى السبورة ووجه لي سؤالا:

 " إذا وقفنا أنا وأنت وجها لوجه، ودفعت كرشي العملاقة حتى تلصق بظهري ثم أطلقتها عليك، ماذا سيحدث؟ 

أجبته: "أنت ستتحرك سنتيمترا واحدا للخلف، بينما أنا سأطير من مكاني مثل كرة، أصطدم بالحائط وأخرج منه إلى الجهة الأخرى". 

فرد علي ضاحكا "أحسنت. عد إلى مكانك ". 

وهكذا قضينا العام الدراسي، بين التعلم والمرح والحماس والاجتهاد، حتى انتهت السنة. مادة الفيزياء التي كانت تبدو صعبة وشرسة، أصبحت ممتعة ولذيذة بفضل الأستاذ الذي جعلنا نحبها ونعشقها. كان يخفف عنا الضغط والخوف بأسلوبه الفريد، ويزرع فين الثقة بأنفسنا. وعندما انتهت الدراسة وظهرت نتائج الامتحانات، أقام حفلة لنا على حسابه الخاص، جلب لنا فيها المشروبات الغازية وعصائر الفواكه. ثلاثة منا حصلوا على ميزة حسن جدا، وخمسة على ميزة حسن، والباقون بدون ميزة.

كانت. لحظات لا تنسى، مليئة بالفرح والفخر بما حققناه.

About Me
Abderrahmane Hassani

I'm a traveler, wanderer, explorer, and adventurer of life's great journey.

About Me
Abderrahmane Hassani

I'm a traveler, wanderer, explorer, and adventurer of life's great journey.

About Me
Abderrahmane Hassani

I'm a traveler, wanderer, explorer, and adventurer of life's great journey.

التعليقات

إبقَ على اطلاع

مقالات قد تنال إعجابك

Apr 29, 2025

هناك في مكان ما، في جزء ما، في نقطة ما، يكمن الخلل في داخلك. 

Apr 29, 2025

هناك في مكان ما، في جزء ما، في نقطة ما، يكمن الخلل في داخلك. 

Apr 29, 2025

هناك في مكان ما، في جزء ما، في نقطة ما، يكمن الخلل في داخلك. 

Apr 29, 2025

.كل شيء حولي في حالة من الفوضى والارتباك

Apr 29, 2025

.كل شيء حولي في حالة من الفوضى والارتباك

Apr 29, 2025

.كل شيء حولي في حالة من الفوضى والارتباك

Apr 29, 2025

...كل يوم هو بالنسبة لي فرصة جديدة للحياة. فرصة غالية أقدِّرها وأجِلُّها. أعلم أنها فترة زمنية ثمينة، منحني الله إياها

Apr 29, 2025

...كل يوم هو بالنسبة لي فرصة جديدة للحياة. فرصة غالية أقدِّرها وأجِلُّها. أعلم أنها فترة زمنية ثمينة، منحني الله إياها

Apr 29, 2025

...كل يوم هو بالنسبة لي فرصة جديدة للحياة. فرصة غالية أقدِّرها وأجِلُّها. أعلم أنها فترة زمنية ثمينة، منحني الله إياها

Apr 29, 2025

...أشعر بالضيق والاختناق. أحس بنفسي كما لو أنني مطمور تحت ركام هائل من الأتربة والنفايات. كصرصور كسيح مقلوب على ظهره، في جوف بالوعة من بواليع

Apr 29, 2025

...أشعر بالضيق والاختناق. أحس بنفسي كما لو أنني مطمور تحت ركام هائل من الأتربة والنفايات. كصرصور كسيح مقلوب على ظهره، في جوف بالوعة من بواليع

Apr 29, 2025

...أشعر بالضيق والاختناق. أحس بنفسي كما لو أنني مطمور تحت ركام هائل من الأتربة والنفايات. كصرصور كسيح مقلوب على ظهره، في جوف بالوعة من بواليع

اشترك في النشرة البريدية

تصلك مقالاتنا مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

© 2025 Hamasat. Créer par MonkeyDzign.

اشترك في النشرة البريدية

تصلك مقالاتنا مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

© 2025 Hamasat. Créer par MonkeyDzign.

اشترك في النشرة البريدية

تصلك مقالاتنا مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

© 2025 Hamasat. Créer par MonkeyDzign.