HAMASAT

HAMASAT

Apr 29, 2025

إما أكون أو لا أكون

لم أعد أستطيع النظر إلى الخلف.

لأكثر من سبع سنوات، لا أذكر أني ألتفت مرة واحدة لأرى ما تركته خلفي. كنا نعيش في كوخ صغير من الطين، أنا وأمي وأختاي الصغيرتان، بعد أن عشنا حياة رغيدة في فترة من الزمن لا تزال محفورة في ذاكرتي، عندما كان والدي على قيد الحياة. كان رجلا ثريا لا ينقصه شيء، لولا أن جشعه الأعمى دفعه لاقتراض المزيد من المال لتوسيع تجارته. لكن القارب الذي كان يحملنا انقلب بنا في عرض البحر عندما ثقل الوزن، وعجز والدي عن تسديد ديونه بعد أن كسد البيع وركد الشراء. 

وضعت الأبناك يدها على كل شيء. لدرجة أننا لم نعد نملك أي شيء. ولو ثمن نقلنا على ظهر عربة يجرها حمار إلى مثوانا الطيني الجديد الذي اكتريناه. مات والدي كمدا بعد تلك النكسة ببضعة أشهر. فنهضت أمي لتصارع الحياة من أجلنا. حتى لا يدهسنا الجوع ويقتلنا العطش. 

وأقسمت على أن أواصل دراستي على نفس الخطى التي كنت عليها أيام العز، وألا أحمل في صدري هما للحياة. 

اشتغلت في التنظيف في الدور، والحمامات، والمقاهي، وباعت الخبز على الأرصفة والطرقات، حتى احدودب ظهرها وتجعد وجهها وصار من الصعب على الكثير ممن كنا نعرفهم أيام العز أن يتعرفوا في وجوهنا على أثر مما تبقى من ملامحنا القديمة. فقد اسمرت وجوهنا من أثر الشقاء، وصار لوننا يضرب للون الطين، لدرجة أنه لو دخل علينا أحدهم الكوخ أيام الصيف حين كنا نتخفف من ملابسنا المتربة لحسب الكوخ فارغا من أهله وانصرف. 

وعلى الرغم من ضمور أجسادنا وهزالها من شدة ما عانيناه من الفقر والفاقة، إلا أننا كنا أقوياء. لا نمرض إلا ناذرا. كنا كالرجل الكسيح الذي طار فزعا من كرسيه واندفع ينهب الطريق هربا من الأسد عندما بدأ يطارده. لا مجال للراحة أو التدلل أو الشكوى.. إما ان نكون أو لا نكون. إما أن نطفو وإما أن نغرق. 

كانت الطاولة الخشبية الرمادية ذات الأرجل الأربعة هي أهم شيء نملكه في الكوخ. بالإضافة إلى ذلك، كانت لدينا ملابس جيدة، كنا نحرص أشد ما يكون الحرص على ارتدائها فحسب عند ذهابنا إلى المدرسة. أما الطاولة فقد كنا ندرس عليها وفي نفس الوقت جعلت منها أمي مائدة نتناول عليها طعامنا. تعجن عليها العجين، ويأوي إليها قط الجيران ليخلد إلى الراحة كلما وجدها خالية. 

كنا نحب تلك الطاولة ونبجلها، فقد كانت بالنسبة لنا شيئا مباركا، نحرص عليها أشد الحرص وكأنها شيء مقدس في حياتنا يجب الحفاظ عليه بكل عناية. 

فبمجرد أن نجلس إليها لدراسة أي مادة، كانت البركة تحل علينا، والإلهام ينزل، وأسرار الدروس تنكشف أمام أفهامنا، وكأن شيئا ما بداخلها كان يطلعنا على كل شيء.

صراحة لست أدري أكانت هي؟  أم الهلع من الفقر هو الذي أطلق المارد من جرته؟

فلقد تحول عقلي في ظرف سنة واحدة إلى حاسوب كمي يحلل أي شيء. أصبحت مشاكل الرياضيات والفيزياء بالنسبة لي متساوية، لا أستطيع أن أميز بين يسيرها وعسيرها، هي مجرد تمارين سهلة بالنسبة لي أقدر على حلها في ذهني دون أن ألجأ إلى قلم أو حاسبة. فبمجرد أن يكتب الأستاذ معادلة دالة أيا كانت طبيعتها إلا وينبجس داخل رأسي مبيانها واضحا يشي بما تنطوي عليه من أسرار وماورائيات. كنت أخشى أن أظهر قدراتي كاملة أمام الآخرين عملا بنصيحة والدتي، وفي الامتحانات كنت أحرص على أن أحصد النقطة الأولى فحسب، دون أن ألفت الانتباه. أتعمد ارتكاب خطإ أو خطأين، حتى لا يقال عني:

"ها هو ذا الخوارزمي قد نهض من مرقده وجاء لينهي ما بدأه قبل أن يعود للآخرة" 

حصلنا على الباكالوريا تباعا، والتحقت أنا وأختي التي تليني بالأقسام التحضيرية للمدارس العليا، بينما التحقت أختنا الصغرى بكلية الطب. 


وبعد عامين من الجهد والمثابرة، اجتزت امتحان الالتحاق بالمدرسة متعددة التقنيات في فرنسا بتفوق، وحصلت على منحة دراسية سخية للغاية. خصصت جزءا منها لتغطية نفقاتي في فرنسا، بينما استخدمت الباقي لانتشال أمي وأختي من حياة الفقر والكوخ، مانحا إياهن فرصة لحياة أفضل. والتحقت بي أختي التي تليني في السنة اللاحقة بعد أن اجتازت بنجاح مباراة الولوج لمدرسة راقية في الهندسة، على حين بقيت أختنا الصغرى برفقة أمنا تتابع دراستها في كلية الطب. 

في تلك السنوات، شعرت بأننا شققنا طريقا معبدا عبر جبل صخري شديد القساوة، اخترقناه وانبثقنا من جانبه الآخر، نحو عالم جديد مليء بالحيوية والفرص. والآن وبعد هذا النضال البطولي الذي قاتلنا فيه بشراسة. أشعر بأننا انتصرنا في حربنا ضد كل الصعاب، وأن لا وجود للمستحيل.

هناك فقط، قرار حاسم يتخذ على أرضية صلبة، شعاره إما أكون أو لا أكون.

أما المماطلة، والتردد، والتراجع، والخوف، فإلى البوار حظوظ أصحابها، وإلى موارد الهلاك مآلاتاهم. فكلنا سواسية أمام السنن. لا مجاملة ولا محاباة. فجر فحسب ينابيع السر الذي في داخلك وانطلق لتحصل على ما تريد. فلا نامت أعين الجبناء.

About Me
Abderrahmane Hassani

I'm a traveler, wanderer, explorer, and adventurer of life's great journey.

About Me
Abderrahmane Hassani

I'm a traveler, wanderer, explorer, and adventurer of life's great journey.

About Me
Abderrahmane Hassani

I'm a traveler, wanderer, explorer, and adventurer of life's great journey.

التعليقات

إبقَ على اطلاع

مقالات قد تنال إعجابك

Apr 29, 2025

هناك في مكان ما، في جزء ما، في نقطة ما، يكمن الخلل في داخلك. 

Apr 29, 2025

هناك في مكان ما، في جزء ما، في نقطة ما، يكمن الخلل في داخلك. 

Apr 29, 2025

هناك في مكان ما، في جزء ما، في نقطة ما، يكمن الخلل في داخلك. 

Apr 29, 2025

.كل شيء حولي في حالة من الفوضى والارتباك

Apr 29, 2025

.كل شيء حولي في حالة من الفوضى والارتباك

Apr 29, 2025

.كل شيء حولي في حالة من الفوضى والارتباك

Apr 29, 2025

...كل يوم هو بالنسبة لي فرصة جديدة للحياة. فرصة غالية أقدِّرها وأجِلُّها. أعلم أنها فترة زمنية ثمينة، منحني الله إياها

Apr 29, 2025

...كل يوم هو بالنسبة لي فرصة جديدة للحياة. فرصة غالية أقدِّرها وأجِلُّها. أعلم أنها فترة زمنية ثمينة، منحني الله إياها

Apr 29, 2025

...كل يوم هو بالنسبة لي فرصة جديدة للحياة. فرصة غالية أقدِّرها وأجِلُّها. أعلم أنها فترة زمنية ثمينة، منحني الله إياها

Apr 29, 2025

...أشعر بالضيق والاختناق. أحس بنفسي كما لو أنني مطمور تحت ركام هائل من الأتربة والنفايات. كصرصور كسيح مقلوب على ظهره، في جوف بالوعة من بواليع

Apr 29, 2025

...أشعر بالضيق والاختناق. أحس بنفسي كما لو أنني مطمور تحت ركام هائل من الأتربة والنفايات. كصرصور كسيح مقلوب على ظهره، في جوف بالوعة من بواليع

Apr 29, 2025

...أشعر بالضيق والاختناق. أحس بنفسي كما لو أنني مطمور تحت ركام هائل من الأتربة والنفايات. كصرصور كسيح مقلوب على ظهره، في جوف بالوعة من بواليع

اشترك في النشرة البريدية

تصلك مقالاتنا مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

© 2025 Hamasat. Créer par MonkeyDzign.

اشترك في النشرة البريدية

تصلك مقالاتنا مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

© 2025 Hamasat. Créer par MonkeyDzign.

اشترك في النشرة البريدية

تصلك مقالاتنا مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

© 2025 Hamasat. Créer par MonkeyDzign.