إرادة لا تنكسر

عندما كنت في سن الشباب. لم أكن أستطيع أن أتحمل النظر في عين والدي. كنت أشعر بنظراته تستنفذان كل ما تبقى لدي من جلد في خزان الصبر، الذي استمد منه القوة على مواصلة السير. نظرات عينيه كانت تقتلني، تمزقني وتقول لي:
"ألحد الآن لم تستطع أن تعثر لنفسك على عمل؟ إلى متى سأظل أحملك على عاتقي؟"
وعندما يصادف أن يلتقط بصري عبارة حسن المكتوبة أسفل شهادة الماستر التي تحصلت عليها في الفيزياء. كانت تنتابني نوبات من البكاء الهستيري مصحوبة أحيانا بنوبات من الضحك المجنون، فأنظر إلى وجهي المشروخ الذي كانت تعكس أحلامه الضائعة مرآة متصدعة كنت أركنها قبالة مجلسي فوق المكتب، وأحدث نفسي ساخرا:
"أولم أنهك عن الفيزياء يا ولدي؟ أولم أقل لك أن من حاول فك سرائرها مفقود يا ولدي مفقود مفقود؟ ألم أحذرك من أن قوانينها لا تشتغل على أرضنا.؟ "
وعندما كان يشتد بي الكرب وتضيق نفسي كنت التقط أنفاسي بالمسارعة إلى فتح قناة اليوتيوب، ومتابعة كل اللقطات الشهيرة، والمشاهد والموسيقى التي شارك في إنتاجها ثلة من المبدعين الإيطاليين في فيلم "الطيب. الشرس. والقبيح". وكنت أتخيل نفسي في اللقطة الأخيرة مكان الشرس، عندما ربط الممثل "كلينت استوود" عنقه بحبل إلى شجرة ليشنقه. ويديه مربوطتين إلى الخلف فوق صليب غرز عموده في تراب قبر منسي، قد تكدست فوقه أكياس ممتلئة بالنقود عن آخرها. وعدسة الكاميرا تنتقل تحت أصداء موسيقى معبرة، بين "الشرس" وعيني "الطيب" وهو يسدد ببندقيته على الحبل الذي شدت إليه رقبة الشرس. ثم تنتقل لتصور القبور والصلبان المتناثرة على أرضية المقبرة وأكياس النقود التي تناثرت بعض قطعها الذهبية فوق القبر الذي يقف عليه "الشرس". وكأن المخرج يريد أن يسلط الضوء على تفاهة الحياة الدنيا وحقارتها مادامت نهايتها تؤول إلى خاتمة مفجعة مثل هذه. ومع ذلك كان يحلو لي أن أتقمص شخصية "الشرس" وأتصور "الطيب" يسدد ببندقيته على الحبل الملتف حول رقبته فأضحك وأقول:
"لا يهم. أنا رابح في كلتا الحالتين. إن أصاب الحبل. سينقطع بي وأهوي على أكياس النقود وأصير غنيا على الفور، وإن هو أخطأه وأصابني في الرأس، فتلك والله رصاصة الرحمة التي تخلصني من عذاب البطالة."
وكنت أجد راحة عميقة أستشعرها في كياني عندما أستعرض لقطات من فيلم "الماتريكس". فأتخيل نفسي تارة بدل البطل "نيو" عندما كان يدربه "مور فيوس" على القفز من ناطحة سحاب إلى ناطحة. فأتصور نفسي أقفز مكانه إلى الجهة الأخرى. لكني لا أقع. بل، أنجح. فتجسد تلك القفزة في خيالي قفزة الفوز...الفوز بوظيفة سمينة تضع حدا للمعاناة التي تأكلني من الداخل.
وتارة، أتخيل نفسي بدل "ترينيتي" وقد تحول جسمها إلى وميض. إلى طيف يسافر عبر أسلاك الهاتف، لينتهي بها مستيقظة على أريكتها. فأتخيل نفسي مكانها. لكن جسمي لا يتحول إلى وميض، بل يتحول إلى عبارات استعطاف تسافر عبر أسلاك الهاتف إلى أذن وزير الشغل. فتحرك عواطفه نحوي ويتأثر ويستيقظ من غفلته ويقول لي:
"لا بأس عليك يا ابني. اختر الوظيفة التي تحب وأنا أتكفل بتوفيرها لك".
لقد كدت أن أصاب بالجنون في تلك الفتر ة المعتمة من حياتي البائدة، التي قاسيت فيها من ألم البطالة. كنت قويا وذكيا. لكني حينها لم أهتدي إلى حيلة تنتشلني مما كنت فيه. بقيت كذلك ما يربو عن ثلاث سنين يقال لي فيها كل ما طرقت بابا:
"دبلومك غير مجدي. نريد شيئا عمليا يفيدنا في الشركة".
ويريد الله بي الخير، ويلهمني أن أجتاز مباريات الولوج إلى إحدى مدارس الهندسة. وأنجح بامتياز وأجد نفسي في ظرف ثلاث سنين مثل "نيو" في فيلم "الماتريكس". جالسا إلى حاسوبي أعمل في شركة محترمة متخصصة في الإعلاميات.
التعليقات
إبقَ على اطلاع