HAMASAT

HAMASAT

Apr 29, 2025

أقنعة البراءة

فاتتني الحافلة... راح عني القطار... بخسني الأستاذ في علامتي... 

معظم الناس يميلون إلى الاعتقاد بأنهم ضحايا للآخرين، وأنهم ليسوا مسؤولين عما يجري لهم، كأن لا يَدَ لهم ولا تأثير فيما صارت إليه أحوالهم من تراجع وانكسارات. فالحافلة هي المسؤولة عن تأخرنا في الوصول في الموعد، ولسنا نحن من وصلنا إليها متأخرين. والعلامة كانت رديئة بسبب جور الأستاذ وظلمه، وليس لأننا لم نعد للاختبار عدته. قليل هم من يعترفون بأخطائهم ويملكون الشجاعة على إيقاف أنفسهم داخل قفص الاتهام ومساءلتها عما آلت إليه أوضاعهم من تراجع وانتكاسات، أو ما تسببوا فيه من إساءة للآخرين. 

حكى لي أحد الأصدقاء، الذي يعمل الآن أستاذا في الثانوي، عن قصة حقيقية حدثت له أيام دراسته في الابتدائي. قال إنه في ذلك الحين، كان يتمتع ببنية قوية، وطول فارع. وكان يتسم بالجرأة والفضول. مما حدا بالمعلم لأن يختاره مسؤولا عن زملائه. كان يحضر إلى الفصل قبل التلاميذ وحتى قبل المعلم، لإيصال الطباشير واللوازم الضرورية التي يحتاج إليها المعلم أثناء الدرس. 

وذات صبا ح ممطر من أيام فبراير الباردة، وصل إلى الفصل كعادته قبل موعد حضور المعلم والتلاميذ، ووضع قطع الطباشير وباقي اللوازم على مكتب المعلم، ثم اتجه مباشرة إلى مقعده وجلس. بعد حضور التلاميذ والمعلم إلى الحجرة الدراسية، لم يمض وقت طويل حتى توقف المعلم عن الشرح وبدأ يصرخ في وجه التلاميذ: 

"من فعلها منكم، فليقم عن مقعده، وليعلن عن نفسه الآن. وإلا سأجعل حذاءه ينتحب عليه مما سيناله مني من العقاب"

وواصل صديقي حكايته بأن الجو كان ممطرا والنوافذ مغلقة، وكانت هناك في أجواء الفصل الدراسي رائحة كريهة تسبب لهم الشعور بالغثيان، إذ لم يكن بالإمكان تحمل تلك الرائحة الكريهة، ولا كان بالإمكان فتح النوافذ لتهوية المكان بسبب المطر والرياح الباردة التي ستتسرب إلى الفصل من خارجه، وكأنهم عالقون في زنزانة من زنازين الحراسة النظرية التي تحتوي بداخلها على دورات المياه. 

ولما طال أمد الصمت من غير أن يتجرأ أحد على الاعتراف، طلب منه المعلم أن يقوم بجولة استطلاعية بين مقاعد الفصل يشتم فيها رائحة التلاميذ واحدا واحدا ليكشف عن الجاني.

 وبعد انتهاء جولته التي تردد فيها كثيرا عن اتهام بعض التلاميذ الذين لم يكونوا يروقون له، سأله المعلم: 

"من الفاعل؟" فأجابه: "لا أحد"

فصرخ في وجهه: 

"هذا غير ممكن، لا بد من فاعل. لم يبق إلا أنا وأنت، فليشم كل منا صاحبه لنتعرف على الفاعل"

وعندما نطق المعلم بهذه العبارة، لم يتمالك أحد التلاميذ نفسه عن الضحك، فندت منه قهقهة عالية استفزت المعلم وجعلته يتجه إليه ويشبعه ضربا مبرحا بالمسطرة. وكان لتلك العقوبة المفرطة عواقب وخيمة على التلميذ، وعلى المعلم كذلك. 

فقد ظل المعلم لشهور عديدة يتردد على ردهات المحاكم، بسبب مقاضاة والد التلميذ له لما تسبب فيه من معاناة لابنه الذي كان لا يزال صغيرا في السن آنذاك. ولولا لطف الله ورعايته، لكان المعلم سيمضي أشهرا في السجن ويفصل ربما عن عمله. وعندما انتهى ا لأستاذ من حكايته للقصة إلى هذا الموضع، سكت ولم يضف أية كلمة. 

إلى أن سألته: 

"وبعد؟" 

فرد علي: "وبعد ماذا؟" 

قلت له: 

"وبعد، من الفاعل؟" 

أجابني: 

"بالطبع أنا، من “غيري يجرؤ على فعلها؟" 

مازلت أتذكر هذه القصة حتى اليوم، ليس فقط بسبب الضحك الهستيري الذي أثارته في نفسي، بل أيضا بسبب غرابة الحبكة القصصية التي أبدع الأستاذ في سردها علي، أسترجع أحداثها كلما وجدت نفسي أميل إلى التهرب من أخطائي وإلقاء اللوم على الآخرين، أو لاحظت ذلك في أحد الأقارب أو الأصدقاء. أستعيدها وأغرق في الضحك، ثم أبادر إلى سرد أحداثها لهم، لأذكرهم بضرورة الانتباه لأنفسهم والتوقف عن تبرئة ذواتهم واتهام الآخرين.

لقد انتشرت هذه الظاهرة بشكل غريب في مجتمعاتنا، وأصبح الكثير من الناس يميلون دائما إلى تحميل أخطائهم للآخرين، متجنبين بذلك مواجهة الحقيقة وتحمل المسؤولية. 

هذا السلوك، وإن كان يبدو مريحا في البداية، إلا أنه يحمل في طياته عواقب وخيمة تؤثر على الفرد والمجتمع على حد سواء. فعندما نلقي باللوم على الآخرين، نخلق حاجزا بيننا وبين الحقيقة. هذا الحاجز يمنعنا من رؤية الأمور بوضوح، ويجعلنا نعيش في وهم دائم بأننا ضحايا للظروف والأشخاص المحيطين بنا.

في الواقع، هذا الوهم يعمق من مشاعر الإحباط والعجز، ويجعلنا غير قادرين على اتخاذ خطوات فعالة لتحسين حياتنا. من الناحية الأدبية، يمكننا أن نشبه هذا السلوك بشخص يسير في طريق مظلم، يحمل مصباحا، لكنه يرفض إشعاله. يظل يتعثر في الظلام، ويلوم الحجارة والعوائق التي تعترض طريقه، دون أن يدرك أن الحل بسيط وموجود بين يديه. كل ما عليه فعله هو إشعال المصباح، ليكتشف أن الطريق أمامه واضح وممهد. فعندما نتحمل مسؤولية أخطائنا، نفتح الباب أمام فرص جديدة للتعلم والنمو. الاعتراف بالخطأ ليس ضعفا، بل هو قوة وشجاعة. إنه يعكس نضجا ووعيا بأننا بشر، وأن الخطأ جزء من تجربتنا الإنسانية. من خلال مواجهة أخطائنا، نتعلم كيف نتجنبها في المستقبل، ونصبح أكثر حكمة وقوة. لكن تحميل الآخرين مسؤولية أخطائنا لا يؤثر فقط علينا، بل يمتد تأثيره إلى من حولنا، عندما نلقي باللوم على الآخرين، نخلق جوا من التوتر والعداء، ونفقد ثقة الآخرين بنا. هذا يمكن أن يؤدي إلى تدهور العلاقات الشخصية والمهنية، ويجعلنا نعيش في دائرة من الصراعات والمشاكل التي لا تنتهي يجب أن نتذكر دائما أن الحياة مليئة بالتحديات والصعوبات، وأننا جميعا نخطئ 

لكن القوة الحقيقية تكمن في قدرتنا على مواجهة أخطائنا بشجاعة، وتحمل مسؤوليتنا عنها. عندما نفعل ذلك، نفتح الباب أمام حياة أكثر سعادة ونجاحا، ونبني علاقات أكثر قوة وثقة مع من حولنا.

About Me
Abderrahmane Hassani

I'm a traveler, wanderer, explorer, and adventurer of life's great journey.

About Me
Abderrahmane Hassani

I'm a traveler, wanderer, explorer, and adventurer of life's great journey.

About Me
Abderrahmane Hassani

I'm a traveler, wanderer, explorer, and adventurer of life's great journey.

التعليقات

إبقَ على اطلاع

مقالات قد تنال إعجابك

Apr 29, 2025

هناك في مكان ما، في جزء ما، في نقطة ما، يكمن الخلل في داخلك. 

Apr 29, 2025

هناك في مكان ما، في جزء ما، في نقطة ما، يكمن الخلل في داخلك. 

Apr 29, 2025

هناك في مكان ما، في جزء ما، في نقطة ما، يكمن الخلل في داخلك. 

Apr 29, 2025

.كل شيء حولي في حالة من الفوضى والارتباك

Apr 29, 2025

.كل شيء حولي في حالة من الفوضى والارتباك

Apr 29, 2025

.كل شيء حولي في حالة من الفوضى والارتباك

Apr 29, 2025

...كل يوم هو بالنسبة لي فرصة جديدة للحياة. فرصة غالية أقدِّرها وأجِلُّها. أعلم أنها فترة زمنية ثمينة، منحني الله إياها

Apr 29, 2025

...كل يوم هو بالنسبة لي فرصة جديدة للحياة. فرصة غالية أقدِّرها وأجِلُّها. أعلم أنها فترة زمنية ثمينة، منحني الله إياها

Apr 29, 2025

...كل يوم هو بالنسبة لي فرصة جديدة للحياة. فرصة غالية أقدِّرها وأجِلُّها. أعلم أنها فترة زمنية ثمينة، منحني الله إياها

Apr 29, 2025

...أشعر بالضيق والاختناق. أحس بنفسي كما لو أنني مطمور تحت ركام هائل من الأتربة والنفايات. كصرصور كسيح مقلوب على ظهره، في جوف بالوعة من بواليع

Apr 29, 2025

...أشعر بالضيق والاختناق. أحس بنفسي كما لو أنني مطمور تحت ركام هائل من الأتربة والنفايات. كصرصور كسيح مقلوب على ظهره، في جوف بالوعة من بواليع

Apr 29, 2025

...أشعر بالضيق والاختناق. أحس بنفسي كما لو أنني مطمور تحت ركام هائل من الأتربة والنفايات. كصرصور كسيح مقلوب على ظهره، في جوف بالوعة من بواليع

اشترك في النشرة البريدية

تصلك مقالاتنا مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

© 2025 Hamasat. Créer par MonkeyDzign.

اشترك في النشرة البريدية

تصلك مقالاتنا مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

© 2025 Hamasat. Créer par MonkeyDzign.

اشترك في النشرة البريدية

تصلك مقالاتنا مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

© 2025 Hamasat. Créer par MonkeyDzign.